عزيزي جوبتر
اقتباس:بالنسبة للفكرة الاولى : فأنا وأنت متفقان ولكننا نختلف في نقطة وهي أني لست مؤمن أساساً بمصدر الوحي (الالهي) وأنت أبدعت فكرة جديدة أو تأويل جديد للقرآن وهو قولك (للتواصل مع الاخرين ) فمنهم الاخرين الذين يتواصل معهم القرآن ؟ طبعاً أهل مكه -في زمنه- أي أنه كتاب تاريخي مرتبط تماماً بالزمن الذي ولد فيه ! وكما تقول (للتواصل مع الاخرين) أي بمستوى عقولهم آنذاك .
أنا لم أبدع شيئا .
سأنقل لك كلاما للشاطبي وتأمله .
في باب عقده الشاطبي ، قرر فيه أن " هذه الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك " . ومن ضمن ما استدل به على هذه القضية ، قوله : (أنه – أي القرآن - لو لم يكن على ما يعهدون ، لم يكن عندهم معجزا ... ولكانوا يخرجون عن مقتضى التعجيز بقولهم : " هذا على غير ما عهدنا ، إذ ليس لنا عهد بمثل هذا الكلام . من حيث إن كلامنا معروف مفهوم عندنا وهذا ليس بمفهوم ولا معروف " . فلم تقم الحجة عليهم به ، ولذلك قال سبحانه : " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته " . )
ثم بعد تقريره لذلك ، يعقد فصلا يقول فيه : ( واعلم أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم ) ، ثم راح يعدد علوم العرب ، فعد علم النجوم والانواء ومواعد المطر وعلم التاريخ " ومنها ما كان أكثره باطلا أو جميعه كعلم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل والضرب بالحصى والطيرة فأبطلت الشريعة من ذلك الباطل ونهت عنه " و " ومنها علم الطب فقد كان فى العرب منه شىء لا على ما عند الأوائل بل مأخوذ من تجاريب الأميين غير مبنى على علوم الطبيعة التي يقررها الأقدمون وعلى ذلك المساق جاء فى الشريعة لكن وجه جامع شاف قليل يطلع منه على كثير فقال تعالى : (كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) " وعلوم البلاغة وغيرها .
وبعد هذا يقرر أمرا يقول فيه : (ألا ترى أنه كان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرها الإسلام ، كما قالوا في القراض وتقدير الدية وضربها على العاقلة .... وغير ذلك مما ذكره العلماء . ثم يقال : لم يكتف بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض ... وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك . ولما كان الباقي عندهم ، من شرائع الأنبياء ، شيء من شريعة إبراهيم - عليه السلام أبيهم - خوطبوا من تلك الجهة ، ودعوا إليها ، وأن ما جاء به محمد هي تلك بعينها ، كقوله تعالى : " ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل " .... وأخبروا بما أنعم الله عليهم ، مما هو لديهم وبين أيديهم . وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا، لكن مبرأ من الغوائل والآفات التي تلازم التنعيم الدنيوي ، كقوله : ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ... إلى آخر الآيات ) ، وبين من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم ، كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف ، دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرى وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم ، بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة ... وسر فى جميع ملابسات العرب هذا السير تجد الأمر كما تقرر . وإذا ثبت هذا وضح أن الشريعة أمية لم تخرج عما ألفته العرب " .
وبعد أن قرر كون الشريعة أمية وانها لم تخرج عن " معهود العرب " بنى على ذلك قواعد نذكر واحدة تهمنا في موضوعنا : " ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ، ينبني عليه قواعد منها : أن كثيرا من الناس تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحد ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أوالمتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع مانظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها . وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح وإلى هذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه " .
كل هذا لأقرر اني لم ابدع جديدا . بل انت قليل الاطلاع في هذا المجال .
اقتباس:أشكرك على أثراء الموضوع برأي ابو الهذيل العلاف وابن تيمية ولكن هناك "ميتافيزيقيا" في الفكرة . فأنت تقول أن هذه الصفات تختلف بين الله وبني البشر . وهذه الصفات تسمى في الفلسفة الحديثة "قيم" أي أنها أمور مرغوب فيها ويًحث عليها . ولكن من اين جاءت هذه القيم ؟ لقد جاءت من "التنشئة الاجتماعية" فإذا كان لديك قيمة الكرم و صارت جزءاً من ذاتك فأنت جزءلايتجزأ من محيطك او حضارتك العربية ولكنها تسمى عند الاخرين "تبذير" كذلك الشجاعة تجدها قيمة محبوبة عند مجتمع ما. لكنها مكروهة في مجتمع آخر أي أنها نسبية . نحن نستطيع أن ندرس هذه القيم دراسة علمية سوسيولوجية ونفسية (علمانية)ولكننا حين نقول بأن : صفات الله تختلف عن صفات الانسان فنحن ندخل في الميتافيزيقيا وتعرف أن الفلسفة المعاصرة قد تجاوزت الميتافيزيقيا .
أنت تطرح قضيتين : نسبية القيم ، وتجاوز الفلسفة المعاصرة للميتافيزيقا .
بالنسبة للقضية الأولى ، فأنا أخالفك الرأي . عندما يأتي " شمري " ويذبح النعاج ترحيبا بضيف قادم . فهذا تصرف ، سلوك . اختلاف " النظرة " اتجاهه ، وتصنيف فعله بأنه : كرم او تبذير ، لا يعني أبدا نسبية في القيم بقدر ما يعني اختلافا في الرؤى .
فهذا وذاك يرى الكرم الفضيلة ، ولكنهم يختلفون في السلوك الذي يعبر عن هذه الفضيلة . أنا أرى الأمر من هذه الزاوية .
بالنسبة للقضية الثانية ، فالخلاف من أكثر من جانب :
أولا ، الفلسفة ، معاصرة بأي معنى ؟
إن كنت تقصد بأنها تجاوزت كل ما قبلها ، وانها الحد الذي توقف عنده تقدم العقل . قلت لك : انت مأخوذ بمركزية اوروبية ومتغرب فكريا ، ولا ترى البشرية الا بمعيار الاوروبيين.
وإن كنت تقصد بأنها معاصرة لنا باعتبارها آخر تغيرات الفكر الأوروبي الذي نعيش في ظل حضارته ، وانا علاقتنا به علاقة معاصرة مزامنه ، لا علاقة تلقي واشتراك . وافقتك .
ثانيا ، إبعاد الميتافيزيقا عن مجال الدراسة ، إن كان في نظر الغربيين : تجاوز . فهو ، بالنسبة لي ، ضرورة .
افهم من الميتافيزيقا : النظر في عوالم أخرى ، لا ندركها ، بعين العقل . وهي بهذا المعنى لا تدخل ضمن دائرة العقل . في الحضارة الإسلامية ، وكذا في الحضارة الغربية ، تم رفض إدخالها ضمن مجال النظر .
في الحضارة الإسلامية ، كان علم الكلام مرفوضا لدى أهل الحديث ، وكان الرفض مبني على أن هذا العلم لم يكن معروفا عند السلف . فكان الأمر بالبداية أنهم يكفون عن الخوذ فيه لا لمعرفتهم به ، بل لأنهم لم يعهدوا السلف يخوذوا فيه . تطور هذا المذهب حتى وصل مرحلة التنظير ، وتوضيح اسبابه الهلمية ، عند ابن تيمية .
كان ابن تيمية ، عكس الأشعري والغزالي ، يدخل مع اهل الكلام والفلسفة نقاشا معرفيا أكثر منه أيديولوجيا . ناقش الادوات المعرفية ، استفاد من النقد الذي وجهه ابن رشد للأشاعرة ، تكلم على المنطق ونقد أصوله الاغريقية ، وتكلم عن الكليات العقلية التي تواضع عليها المتكلمون ... إلخ . توصل أخيرا إلى أن عالم الغيب غير خاضع للعقل ، لأنه لا ينتمي الى عالمنا ، ولا يمكن قياس عالمنا على عالم الغيب ، لانه قياس بين متخالفات . ولا ينفع في جناب الله الا قياس الأولى . وكل الأخبار التي تصلنا عن عالم الغيب ، لا نقف منها الا موقف المصدق او المكذب . وعمل العقل ينحصر في التدقيق بالخبر والمخبر فقط .
عند ابن تيمية نجد فصلا بين العوالم ، وقصر النظر عند احدها ، والاقتناع بعدم القدرة على ادراك باقي العوالم .
في الحضارة الغربية ، جرى الأمر على نحو آخر . كانت الإشكالية في الغرب بين الدين والعلم ، وكأنه قدر على الغربيين أن يكون من يتمسك بالعلم منهم نافيا للدين بالضرورة . خصوصية التجربة تلك ، جعلت من أوغست كونت ، مؤسس الوضعية واول من أبعد الميتافيزيقا عن الفلسفة والعلوم ، ينحى منحى آخر في فصله هذا .
على العكس من التجربة الإسلامية ، قام كونت والألمان من بعده بدل من قصر دور العقل على العالم الحالي ، على العكس من ذلك ، قاموا – انطلاقا من قاعدة عصر التنوير الذي قدس العقل – بنفي تلك العوالم واعتبارها غير ذات معنى . من هنا جاء رفض الميتافيزيقا واعتبارها غير ذات معنى .
نفس النتيجة هنا وهناك ، لكن ما فعله ابن تيمية يعتبر تنزيها للإله ، وما فعله الاوروبيين يعتبر تجاوزا للميتافيزيقا .
ثالثا ، رفضك للخوض في الموضوع ، لأنه ميتافيزيقا ، مدعاة للاستغراب . إذا كنته ترفضه ، فلماذا من الأساس وضعت الموضوع ؟
شكرا لك ، وآسف على الإطالة