معقولية الانسحاب الأميركي من العراق
يحيى دبوق
يُظهر تتبع جملة من التصريحات والمواقف الأميركية، إضافة إلى دراسات وتعليقات صادرة عن كبريات الصحف ومراكز البحث المؤثرة في القرار الأميركي، أن نقاشاً جدياً يجري حول الاستراتيجية الواجب اتباعها أميركياً للخروج من المأزق الحالي في العراق، مع المحافظة على ما يمكن من سلة الأهداف الأميركية وفقاً لما أُريد للحرب على العراق أن تحققه.. ويتأطر النقاش في المرحلة الحالية في اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول، وهو قريب من رؤية الإدارة الأميركية، يدعو إلى مراجعة الاستراتيجية الأميركية في العراق مع تقليص حجم الأماني الابتدائية للحرب، والبحث عن أسلوب تعامل مع المأزق العراقي بحيث لا يؤدي إلى انهيار الاتجاهات التي يجري العمل عليها في المنطقة، أو عدم <<تحقيق المهمة>> بحسب تعبير الرئيس الأميركي جورج بوش.. من هنا يدعو هذا الاتجاه، إلى مراجعة أسلوب التعامل مع العمليات المسلّحة ضد القوات الأميركية، مع دراسة ومراعاة المكوّنات الداخلية والخارجية المرتبطة بالساحة العراقية والتي تشوّش على الوجود الأميركي، باتجاه معالجتها أساساً أو التقليص من تأثيراتها، بانتظار الانتهاء من إعداد القوات الأمنية العراقية المفترض بها أن تحل مكان القوات الأميركية لمواجهة حالة <<التمرد>>، وهو ما سيمنح القوات الأميركية فرصة الانكفاء عن المواجهة المباشرة.. وحسب هذا الاتجاه، فإن أي انسحاب أميركي من العراق، في ظل الأوضاع الحالية، سيكون إجراء كارثياً للولايات المتحدة، وسيؤدي إلى نتائج لن تُحمد عقباها لعقود قادمة.
الاتجاه الثاني وإن بدا اقل حضوراً في المرحلة الحالية، إلا انه يشهد بروزاً متسارعاً بشكل لافت لدى المعلّقين الأميركيين، ويتمثل في العديد من التصريحات والمواقف الأميركية الداعية للانسحاب من العراق، حتى أن بعضها (التصريحات) صدر عمن يُحسبون على <<رؤية>> بوش نفسها.. ويرى هذا الاتجاه لزوم الخروج الأميركي من العراق ضمن إطار زمني يتحدّد وفق محطة <<إنجازية>>، على شاكلة صياغة وإقرار دستور دائم وإجراء الانتخابات العراقية القادمة، و/أو إنهاء بناء الجيش العراقي.. أي البدء بالانسحاب مع حضور (أو استجلاب) واقع ما، تستطيع معه الإدارة الأميركية توظيفه للإعلان بأنها حققت مرادها في العراق، في إطار مصطلحات معقولة تلقى نوعاً من المصداقية في العراق والمنطقة، رغم الإمكانية الكبيرة بأن تضطر الإدارة الأميركية لأن تتخلى عن قسم من طموحاتها بنتيجة الحرب على العراق.. فحسب هؤلاء، الأَولى أن يتم الانسحاب الآن، من أن يتم لاحقاً مع واقع وسيناريو يؤدي إلى كارثة أكبر بكثير من المشاكل الحالية المؤثرة على الحضور الأميركي في المنطقة والعالم.
ما بين هذين الاتجاهين، يبدو أن الإدارة الأميركية قد حدّدت فعلاً استراتيجيتها الجديدة، وهي استراتيجية تبدو ترميمية للاستراتيجية القديمة، دون المسّ قدر الإمكان بالأهداف الأساسية في العراق ومنه باتجاه المنطقة، إذ يُعمل على تجميد الأهداف الاستراتيجية، دون إلغائها، والعمل على إيجاد حلول للخلل الحاصل في المستوى التكتيكي، بحيث يجري التركيز على معالجة العقبات والموانع الكامنة في حالة <<التمرّد>> والعمليات العسكرية، وإيجاد جوامع مشتركة مع بعض دول الجوار باتجاه تهدئتها في المرحلة الحالية، مع الحثّ على حل المشاكل السياسية المختلفة في الداخل العراقي أو تجميدها، فيما تواصل القوات الأميركية مقاتلة <<المتمرّدين>> وإسراع الخطى نحو الاعتماد على الجيش العراقي والقوات الأمنية العراقية الأخرى كبديل عن القوات الأميركية، فالعمل ينصبّ حالياً على زيادة عديد الجيش العراقي و<<فاعليته>> ما يسمح بتقليص عديد القوات الأميركية إلى 60 ألفاً من أصل 150 ألفاً يتواجدون في العراق..
وتراهن الاستراتيجية الترميمية للإدارة الأميركية، على أنه في حال جرى تقليص الاحتكاك الأميركي المباشر مع <<المتمردين>>، وانكفاء القوات الأميركية والكفّ عن كونها أهدافاً لعمليات دموية جراء تولي القوات العراقية مهامها التكتيكية، فإن كل الأصوات الأميركية المعارضة سوف تصمت، طالما أن الخسائر ستتقلّص.. وهو واقع سيمنح الإدارة الأميركية الأمل بان يجري مستقبلاً استئناف الاستراتيجية الابتدائية للحرب انطلاقاً من العراق، باتجاه المنطقة برمّتها.
وإذا ما أريد للنقاش أن يأتي بفائدة، فالأولى أن يُصار إلى الابتعاد قليلاً عن المعادلات الرياضية البسيطة، القائمة على تركيب معادلة على طريقة المتواليات الهندسية، فليس من السهل التوصّل إلى نتيجة كبيرة كالانسحاب الأميركي من العراق، كمحصلة لمعطيات ميدانية هي في الأصل ضرورية لكنها غير كافية: عمليات مسلحة مع خسائر يومية بالأرواح، تدفع باتجاه استطلاعات رأي تعبر عن رفض تأييد الحرب، تدفع بدورها إلى أصوات سياسية تنادي بالانسحاب من العراق، ثم إلى قرار الانسحاب ومن بعد ذلك تنفيذه.. إنها متوالية هندسية تنطلق من العمليات اليومية لتصل إلى الانسحاب، علماً أن كل محطة من هذه المحطات، أو كل تركيبة ومفردة فيها، تحتاج إلى معطيات وظروف محيطة ومواكِبة، هي التي تنقلها إلى المرتبة اللاحقة باتجاه قرار الانسحاب، على أن يكون الواقع الأميركي في العراق، كمحصلة عامة، وصل إلى حالة من التردي والمأزقية يفوق في قوته وتداعياته السلبية عما للانسحاب من تداعيات سلبية على الواقع الأميركي برمّته، في العراق وفي المنطقة وفي العالم، وبين هذا وذاك، هناك مسار طويل جداً ومعقّد جداً، ليس بالبساطة المتصورة أو المراد تصوّرها.
على المراقب أن يرصد جملة من الأمور، في المسار الطويل للانسحاب الأميركي من العراق، ومنها:
أولاً مزاج الجمهور الأميركي:
لا يوجد في العراق تهديد عسكري فعلي للقوات الأميركية له القدرة على هزيمة هذه القوات بمفاهيم الحرب التقليدية، وبالتالي لا يمكن دفع الأميركيين إلى الانسحاب (الطرد) من هذا البلد جراء هزيمة عسكرية مباشرة، فما يوجد في العراق الآن هو جماعات مقاومة (فضلاً عن إرهابيين يستهدفون المدنيين العراقيين) تتخذ من حرب العصابات سبيلاً لمقاومة الاحتلال، في إطار ما يجري الاصطلاح عليه <<بالحرب المنخفضة القوة>>.. وإذا ما استطاعت أعمال هذه المقاومة إيجاد حالة من عدم الاستقرار الميداني لفترة زمنية طويلة، مع جباية خسائر بشرية متواصلة في صفوف الأميركيين، وهو ما يحصل حالياً، فإنه كافٍ بضميمة عدم إظهار أي نجاحات هامة بوجه المقاومة العراقية من قبل الأميركيين، لدفع المجتمع الأميركي للضغط على قيادته باتجاه الانسحاب من العراق.. من هنا، وفي هذا الإطار، تأتي أهمية رصد استطلاعات الرأي الأميركية الأخيرة المعبرة عن مزاج الجمهور الأميركي الرافض، والتي يمكن اعتبارها بدء بيّنة على نجاعة الأعمال المقاومة في العراق.. لكن استمرار مزاج الجمهور الأميركي الرافض للحرب، وهو المطلوب للدفع باتجاه الانسحاب، يتطلّب من المقاومة العراقية التكيّف مع الإجراءات التي يقوم ويتوقع أن يقوم بها الأميركيون لمواجهة المقاومين، مع تواصل إيقاع الإصابات في صفوفهم رغم هذه الإجراءات.
ثانياً تغيير الإدارة الأميركية:
فرضية أن تُقدم الإدارة الأميركية الحالية على الانسحاب من العراق، هي فرضية في إطار معقولية منخفضة لاعتبارات عديدة، هذا إن لم تكن منتفية بالأساس، فعلى الرغم من الأصوات التي تنادي بالانسحاب من العراق، على قلّتها أو كثرتها، فإن الانسحاب يعني انكساراً استراتيجياً للمشروع الأميركي في المنطقة له تداعيات ممتدة لفترات طويلة جداً على الحضور الأميركي في المنطقة وفي العالم.. ورغم التسليم والإقرار بالفشل الاستخباري الذي رافق تحضيرات الحرب وما تلاها، إضافة إلى الإقرار بالصعاب والعقبات الميدانية والسياسية القائمة في العراق بوجه الأميركيين والمشروع الأميركي، إلا أن التسليم بهذا الواقع لن يدفع نحو الانسحاب دون ولوج كافة السبل المتصوّرة أميركياً لترميم الخلل وإعادة رسم اتجاهات الواقع العراقي بما يصبّ في مصلحة الأميركيين، مع إمكانية معتَبرة لأن يجري انسحاب في العراق وليس منه.. وهو واقع حاكم على أي إدارة أميركية، وتحديداً الإدارة الحالية..
في الخلاصة، يمكن القول إن متأتى الواقع العراقي الحالي المتأزم على القوات الأميركية، لن يدفع بالإدارة الحالية إلى الانسحاب من العراق، بل سيدفع بها إلى تجميد الأهداف الاستراتيجية للحرب، والانشغال في المستويات التكتيكية ومحاولة إيجاد السبل لترميم الخلل الميداني الذي يمنع الأميركيين من استكمال مخططاتهم في المنطقة، فإذا ما أفلحت هذه الإدارة في تطويع الواقع العراقي الميداني، فالتقدير أن تستأنف العمل على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، وإن مع تقليص لحجم هذه الأهداف بنتيجة العبر العراقية، علماً أن لا مؤشر معقولاً إلى الآن يُشير إلى قدرة أميركية فعلية على تطويع الواقع العراقي لشدة تعقيداته وتشعّباته.. مع التشديد على أنه تمّ إرساء أسس لمسارات قد تؤدي مستقبلاً في حال توفر ديناميكية تفاعلية من قبل المقاومين العراقيين، إضافة إلى توفّر ظروف مؤاتية أخرى، أن يندفع الأميركيون إلى اتخاذ قرار الخروج، أو حتى الفرار أيضاً، من المستنقع العراقي.
() باحث
http://www.assafir.com/iso/today/opinion/7.html