نظرة هادئة لمنطقة ساخنة .
الزملاء و الأصدقاء .:97:
لأن كثير من الحوارات السياسية أصبحت ميدانا للمساجلات و تزكية مواقف و انتماءات طائفية او أيديولوجية أو فقط لممارسة الكيد و الكراهية ، رأيت أن أعيد طرح بعض المواقف الأساسية في هذا الشريط ليعمل كأداة لإختزال التفاصيل في موقف عام موضوعي قدر الطاقة ، و في هذه المداخلة سأستضيف مقال بقلم : د. عبد المنعم سعيد ، يختزل خلاله قضية خلية حزب الله في مصر ، آملآ ان يجد فيه المراقب المحايد تفسيرا لأكثر ما يلتبس عليه من تلك القضية .
.............................
نصـف دسـتة أكاذيـب وحقائـق
بقلم : د. عبد المنعم سعيد
كنت أتمني أن أعود هذا الأسبوع لموضوعي المفضل حول الثروة المصرية التي هي مفتاح تطور وقوة وقدرة المصريين ومكانتهم في عالمهم وإقليمهم. ومع ذلك فإن كم الضباب المثار حول اكتشاف خلية حزب الله الأخيرة في مصر, وكم الأكاذيب المطروحة حولها تجعل من الواجب الرد عليها حتي يكون الشعب المصري علي بينة مما يحاك ضده بغرض ليس فقط صرف أنظاره عن أهم أولوياته, بل استدراجه إلي حروب وصراعات لم يخترها, وليس في يده إدارتها, وإن لم يحدث ذلك فعليا فإن الضجيج فيه مايكفي لكي تفقد مصر تركيزها في لحظة أزمة عالمية يأمل الكثيرون من الكارهين أن يكون فيها بركة الفوضي وتكرار ما جري في بلاد أخري حصلت فيها القوي الأصولية علي الربع المعطل في الحكومة لكي تشل أعمالها عندما تريد كما حدث في لبنان, أو حصلت فيها علي ربع الدولة لكي تقيم فيها المحاكم الشرعية ثم تتسلل بعد ذلك إلي بقيتها كما حدث في باكستان, أو تقسم البلاد بين المؤمنين وغير المؤمنين كما جري في السودان, أو تقيم إماراتها الخاصة وجمهورياتها المستقلة كما جري في العراق وأفغانستان. والحمد لله أن ذلك لم يحدث في مصر, ولكن البداية دائما تجري بنقطة كسب الرأي العام وتعبئته من خلال لسلسلة الأكاذيب التي يتم ترديدها حتي تصير الكذبة حقيقة.
وقد رصدنا من الأكاذيب ست, أولاها هو أن خلية حزب الله المكتشفة في مصر ما هي إلا جماعة جاءت لمساعدة أهل غزة بالمؤن والسلاح, وفيما عدا ذلك فإنه لايوجد تدخل في الشئون المصرية. ولو نسينا كل شئ آخر, فإذا لم يكن ذلك تدخلا في الشئون المصرية فماذا يكون التدخل إذن؟ ولكن الحقائق تكشف ما هو أكثر وأوضحناه في الأسبوع الماضي وهو أننا أمام عملية بدأت في عام2005 وكان هدفها إقامة شبكة من أدوات العنف تستخدم حسب موجبات القرار السياسي, وهي مرتبطة بشبكات أخري لتهريب السلاح وتجهيز أدوات العنف في السودان واليمن, وكلها ضمن الإطار الاستراتيجي للمواجهة بين إيران والدول الغربية, وعندما تم القبض علي أعضاء هذه الشبكة في19 نوفمبر من العام الماضي كان ذلك قبل حدوث أزمة غزة كلها, ومن الجائز أن تصعيد حركة الشبكة في هذه التوقيت كان راجعا إلي التحضير لهذه الأزمة. المسألة إذن لم تكن جماعة من العتالين لنقل المؤن والذخائر إلي غزة وإنما هي تحرك استراتيجي تقوم به قوة إقليمية في إطار لعبة أكبر بكثير من القضية الفلسطينية وقطاع غزة. ولعل ذلك يدحض كذبة أخري جرت بعد كشف المستور من الشبكة بأنها كانت مجرد خطأ من حزب الله, لايستحق اهتماما كبيرا من مصر, ويمكن حله بطرق هادئة وبعيدة عن الإعلام ودون ضجة كبيرة. وبغض النظر عن هذه الخفة التي تؤخذ بها مسائل متعلقة بالأمن القومي المصري, فإن الحملة الدعائية كانت حلالا عندما كانت علي مصر, ودارت فيها مظاهرات تهاجم السفارات المصرية, وصدرت بها صحف في مصر ودول عربية كثيرة, وجري حولها برامج تشهير بمصر وسياساتها, بينما الموضوع كله يجري في إطار استراتيجيات دول إقليمية.
ولكن حتي يمكن تبرير هذا التحرك الاستراتيجي وصرف الأنظار عن مدي تأثيراته علي مصر, فقد كان ضروريا التركيز علي كذبة ثالثة قوامها أن حزب الله قام بتقديم المساعدات إلي غزة لأن مصر ساهمت في حصارها ولم تقدم المساعدات لها, وهي فرية صريحة ولا أساس لها, حيث وصل إلي قطاع غزة ـ1.5 مليون نسمة ــ مالم يصل إلي1.5 مليون من المصريين من المؤن والأدوية قبل الأزمة وفي أثناءها وبعدها, وبعد أن بدأ العدوان الإسرائيلي الغاشم علي غزة مباشرة وعلي مدي الـ48 ساعة الأولي كان قد تم نقل55 حالة فلسطينية حرجة إلي المستشفيات المصرية, هذا العدد ارتفع إلي1103 جرحي فلسطينيين في يوم22 يناير من العام الحالي. وحتي يوم20 يناير كان معبر رفح قد شهد عبور3 آلاف و449 طنا من المساعدات الطبية كانت حصة مصر منها1568 طنا, و70 سيارة إسعاف قدمت منها مصر36. وشهد منفذ العوجة التجاري عبور4 آلاف و275 طنا من المواد الغذائية كان نصيب مصر منها1633, ونتيجة الجهود المصرية, ووسط أجواء القتال, عبر من خلال معبر كرم أبو سالم464 طنا من المعونات كان منها207 أطنان من مصر. ومع نهاية الأزمة كان إجمالي المساعدات الطبية التي تم إدخالها إلي قطاع غزة عبر معبر رفح4520 طنا من الأدوية,116 سيارة اسعاف و50 عيادة متكاملة بغرف عمليات و30 جهازا طبيا و500 انبوبة اكسجين و15 ألف كيس دم و2500 سرير للمستشفيات بجانب15 طنا من لبن الأطفال و7000 بطانية و2500 مرتبة اسفنج و100 طن خيام و15 مولد كهرباء. وبلغ اجمالي المساعدات الغذائية5000 طن لم يقدم مثلها وبمثل هذا القدر من السرعة في أية أزمة إنسانية أخري عرفتها المنطقة أو المناطق الأخري والمماثلة في العالم.
ورغم هذه الحقائق التي جري تجاهلها فإن الكذبة الرابعة جري تردادها وهي أن مصر مسئولة عن إغلاق المعابر نحو غزة وهو مايغض النظر عن مسئولية حركة حماس عن هذا الإغلاق عندما رفضت بعد انقلابها العسكري في غزة, مهما كانت الضغوط علي الشعب الفلسطيني, أن تسمح لعناصر السلطة الوطنية الفلسطينية بالوقوف علي المعابر وفقا للاتفاقيات المعقودة. وفي الواقع ان حماس لم يكن لديها مشكلة في تعرض الشعب الفلسطيني للمجاعة, أو حل معضلتها من خلال الاجتياح للأراضي المصرية, مادام مطلوبا منها الالتزام بالشرعية الفلسطينية الوحيدة المعترف بها دوليا, لأنها تريد أن تكون الممثل للشعب الفلسطيني.
وهنا نأتي للكذبة الخامسة وهي أن مصر لم تعترف بحماس وهي التي حصلت علي الأغلبية في الانتخابات الفلسطينية, وهو مالم يحدث لا من الناحية الشكلية ولا من الناحية الموضوعية, فقد اعترفت مصر بحركة حماس وفوزها بالانتخابات, وتركت قادتها يذهبون ويجيئون حاملين حقائب ملايين الدولارات عبر معبر رفح ولكن حماس ذاتها كانت هي التي انقلبت علي شرعيتها عندما أنكرت القوانين المستندة إلي اتفاقيات أوسلو التي جاءت بها إلي السلطة, وعندما انقلبت علي اتفاقية مكة ووزارة الوحدة الوطنية وانفصلت موضوعيا بقطاع غزة عن السلطة الوطنية الفلسطينية. ومع ذلك فان مصر تعاملت بواقعية شديدة ــ احيانا اكثر مما يلزم ــ مع حقيقة ان حماس هي الحاكمة في غزة فجري التعامل معها وصارت مصر هي النافذة الوحيدة لحماس علي اسرائيل وعلي السلطة الفلسطينية وعلي حتي بقية دول العالم, كل ذلك جعل القضية ليس عما اذا كانت مصر تعترف بحماس ام لا, بل عما اذا كانت حماس تعترف بنفسها ام لا, باعتبارها سلطة سياسية مسئولة عن مصير شعب. وماجري خلال المحاولات المصرية الأولي للمصالحة الفلسطينية قبل الحرب علي غزة, وماجري خلال محاولات المصالحة الثانية بعد الحرب, ورغم الجهود المصرية لخلق صيغة وسط وحشد العالم من اجل اعمار غزة فإن حماس اثبتت انها تدار بجهازين للتحكم الخارجي, واحد منهما في دمشق والاخر في طهران.
الكذبة السادسة وليست الأخيرة, هي انه لايجوز التعرض لحزب الله لأنه هو الذي حمل لواء المقاومة وحمي شرف العرب بالانتصار الذي حققه عام2006. والحقيقة أن الذي حمي شرف العرب كان مصر, وهي التي كبدت إسرائيل أكبر خسائرها وهي التي استعادت منها اكبر الأرض المحررة, كما انها بين العرب جميعا كانت هي التي دفعت الثمن الاقتصادي والبشري الأفدح. والأمر الثاني ان ماسمي بانتصارات حزب الله استندت كلها إلي المعايير الإسرائيلية وتقرير لجنة التحقيق في حرب غزة وهي التي جعلت اسرائيل مهزومة لأنها فقدت41 مدنيا في الحرب منهم17 من العرب, بينما كان مقتل ما يزيد علي1000 لبناني لايعني الكثير, حيث لاتستوي قيمة الاسرائيلي مع العربي وكذلك الحال بالنسبة لعشرات من العسكريين مقابل المئات من حزب الله, وبالنسبة لحالة التدمير التي جرت لدولة كاملة هي لبنان مقابل شروخ قليلة في مبان إسرائيلية, واحتماء نصف مليون اسرائيلي بالملاجئ بينما حرم مليون لبناني منها وانطلقوا في العراء بلا حمية تحت الق صف والقتل. الأهم من ذلك كله مادام لا حزب الله ولا غيره أقام لجنة تحقيق لبنانية أو عربية في الحرب ولفحص أخطاء الحساب التي اعترف بها حسن نصر الله فإن الهزيمة الإسرائيلية جاءت من بقاء حزب الله لكي يسيطر بالسلاح علي الساحة السياسية اللبنانية, ولكن الواقع الاستراتيجي الذي لايمكن تجاهله هو أن مزارع شبعا لم تحرر وتوقفت المقاومة اللبنانية تماما طوال أكثر من عامين وجاءت قوات دولية فاصلة تعمل بمقتضي الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ــ أي قوات احتلال ــ بحيث فقد حزب الله مكانته اللصيقة بالحدود مع إسرائيل واذا كانت الانتصارات تحسب بالنتائج الاستراتيجية لها فإن حزب الله لم يحقق نصرا علي اسرائيل, ولكنه حقق نصرا ساحقا علي الشعب اللبناني حاول أن يمده إلي مصر, تلك كانت الأكاذيب, وهكذا كانت الحقائق! .
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 05-08-2009, 03:05 AM بواسطة بهجت.)
|