الإنتماء الديني والعرقي والولاء الفكري
تحياتي للجميع ، وآسف للتأخر ..
كتوطئة ، دعونا نعرف معنى الإنتماء ببعديه العرقي والديني ، مقابل الولاء ببعده الفكري والحزبي ، لكن أولا ، لنستعرض واقع الأغلبية والأقلية كإطار منظم لهذا الإنتماء :
- الأقلية والأغلبية :
يرى إبن خلدون أن الفرد لا يمكن أن يعيش دون إنتماء إجتماعي قبلي في مجتمعات بدوية لا حامي لها من بعضها إلا الإنتماء للقبيلة ، ويرى أن شوكة المجموعة لا تقوى إلا بين أصحاب النسب الواحد لأنهم – بالضرورة – يتعاطفون ويتعاضدون ضد الغريب بدوافع من صلة الرحم.
ويضيف إبن خلدون في هذا المجال بعدا رائعا ، وهو أن " المتفردون في أنسابهم " لا يملكون حمية تدفعهم للدفاع عن المجموعة لأنهم يفتقدونها أصلا ، لذلك فهم أول الفارين وأول المنسحبين حال وقوع خطر !!.
من هنا نجد أن إبن خلدون يؤكد على أن المتفرد بنسبه ، أو الشاذ عنه ، إنما هو " نقطة ضعف " إجتماعية في جسم المجتمع ، وأنهم السباقون إلى الفرار حال وقوع خطر على مجتمع لا ينتمون إليه .
وبكل تجرد ، وبدون أي أفكار مسبقة ، فإنه يحق لنا أن نسحب هذه الفكرة على واقع الأقليات في العالم ، فهي " الأكثر تكتلا " وإلتصاقا بإنتمائها لأنه الضامن الوحيد لها من بطش الأغلبية ، بل وقد تلجأ إلى زعزعة صفوف الأغلبية عن طريق طرح الأفكار العامة لربط قسم من الأغلبية بولاء " فكري " من شأنه تأمين حماية للأقليات من داخل الأغلبية نفسها .
وسنضرب هنا مثالا بالأقلية الدينية ..
يجوز لنا هنا أن نضرب مثالا بالشيوعية ، فبواسطتها إستطاعت الأقلية اليهودية " الدينية " في أوروبا أن تأسس أكبر كيان سياسي معاصر وهو الإتحاد السوفييتي ، ولا يخفى على الكثيرين أن لينين المؤسس ، وتروتسكي القائد والمنظم للجيش الأحمر ، كانا يهوديان في بلد يشهد أغلبية أرثوذوكسية ساحقة ، وما كان لهما أن يتسيدا هذه الأغلبية لولا زعزعة إيمانها بالإنتماء الأصيل لمصلحة " ولاء " طارئ وهو الحزب ، هذا الإنتماء " الديني " الذي عاد بقوة حال زوال الشيوعية ، ولتعود روسيا حامي حمى الأرثوذوكسية كما كانت في قيصريتها !!.
في الطرف المقابل ، نجد أن الإنتماء للأغلبية يمكن أن يهدد فعلا وجود الأقليات ، خاصة إذا ما كانت لهذه الأقلية خصائص متفردة غير متجانسة مع طبيعة المجتمع المحيط ، وهنا سأستشهد بمثال الأخ محمد :
" والمثال على ذلك هو التفاوت بين المجتمع اليهودي، فرضا، و المجتمع المسيحي في أوروبا على مدى التاريخ. فبسبب إنعزال اليهودية في إرادتها الحفاظ على خصائصها .. نجد تكريسا للتفاوت والإختلاف الإجتماعي .. مما سبب فورات من التعصّب المسيحي (صاحب القوّة) ضدّ جيرانهم من اليهود. والجدير بالذكر هنا أن هذه الفورات لا يمكن أن تحدث من لا شيء .. فلا بد وأنها تعتمد على طاقة كمينة (أو تعصّب كمين) في المجتمع أسهبه و أخرجه الى العيان حدث معيّن " .
هذه الإنعزالية وعدم التجانس ، تسببت عبر التاريخ باضطهاد اليهود في أوروبا ، وليست محاكم التفتيش إلا مثالا على هذا الإضطهاد .
الإنتماء مقابل الولاء
قلنا أن الولاء الحزبي قد يكون وسيلة الأقليات لإقتحام حصون الأغلبية ، لكن أيضا ، يمكن لهذا الولاء أن يسقط عندما تستشعر الأقلية أن إنتماءها الأصيل للعرق أو الدين يمكن أن يكون خط الدفاع الأخير لكيانها وبقائها ، وسنعود للحزب الشيوعي !!.
سبق لي أن ضربت هنا مثالا على نكوص الفكرة لصالح المجموعة عند زعيم تاريخي لحزب شيوعي عربي ، وهو خالد بكداش الكردي السوري .
كتوطئة ، فإن الأقلية الكردية في سوريا هي جزء من خليط عرقي في النسيج السوري الذي يحتوي في نسيجه أقليات عرقية مختلفة كالتركمان والأكراد والشراكس … وغيرهم إلى جانب الأغلبية العربية.
إلتقاء هذه الأقليات العرقية مع الأغلبية في نقطة مشتركة ، وهي الدين ، أعطاها عبر التاريخ وجودا قويا ومؤثرا في التاريخ السوري ، ولم يكن من باب الصدفة أو " الوصولية " أن يصل إلى الحكم في سوريا زعيمين كرديين هما حسني الزعيم صاحب أول إنقلاب عسكري عربي عام 1949، ومن بعده سامي الحناوي .
أيضا ، لم يكن غريبا أو مستهجنا أن يكون زعيم الحزب الشيوعي السوري الذي يضم في صفوفه خليط من الأعراق والأديان كردي ، وليس من أكراد الداخل ، بل من قبيلة كردية تعيش في شمال سوريا .
خالد بكداش كما هو معروف ، رفض الإنصياع لأوامر جمال عبد الناصر أيام الوحدة مع سوريا عام 1958بحل حزبه لصالح الإتحاد ، مما وضعه بمواجهة مباشرة مع ديكتاتورية عبد الناصر الذي أمر بملاحقته !!.
خالد بكداش الشيوعي الأيديولوجي ، لم يجد أبدا ضيرا في أن يتجاوز الفكرة " الولاء " لصالح الإنتماء ، ولم يكن أمامه إلا العودة إلى أحضان هذا الإنتماء بلجوئه إلى قبيلته " الكردية " في الشمال كي تأمن له فرص النجاة من البطش ، وهذا مثال على قداسة الإنتماء وقدرته على حماية الفرد في ظل ولاء طارئ قد يزول مع زوال الفكرة !! .
مثال آخر ، هو الحرب الأهلية في البلقان :
يروي طبيب فلسطيني لإحدى المجلات العربية رحلته مع الشيوعية والولاء المطلق لها في ظل يوغوسلافيا قلعة الشيوعية في أوروبا .
يقول هذا الطبيب أن الولاء الحزبي إستطاع صهر المجتمع اليوغسلافي طويلا تحت رايته ، لكن سرعان ما تفكك هذا الولاء عندما لفحت المجتمع نيران " الإنتماء " ووضعته أمام المحك .
يروي لنا الطبيب " الشيوعي " أنه كان " زميل " وصديق للدكتور رادوفان كرازديتش في مستشفى واحد في العاصمة البوسنية ساراييفو ، واستمرت هذه الصداقة طويلا إلى أن وقعت الحرب الأهلية ، ليعود الأصل إلى الفرع ، وليصبح رادوفان " الشيوعي " زعيما للصرب ببعديهم القومي والديني ، وليمارس ضد المسلمين والكروات أبشع المجازر العرق-دينية ضاربا بالولاء الحزبي عرض الحائط !!!.
ما الذي جعل روسيا وبكداش ورادوفان كرازديتش يعودون إلى الإنتماء الأصلي على حساب الولاء الطارئ ؟؟ إنه " التشبث " بالوجود بكل تأكيد والحق بالبقاء ، هذا الحق الذي لا يأمنه ولا يوفره سوى الإنتماء ، والذي لا يستطيع أي ولاء أن يقف أمامه .
http://nadyelfikr.com/viewthread.php?fid=2...tid=4844&page=3