Array
داروين والثورة الداروينية (1)
الدارونية - خروف العلم الأسود
محاولة للإجابة عن أسئلة أولية
بقلم: محمد نور الله
تاريخ النشر: 2009-03-10
يعاني مفهوم التطوّر في الأوساط الخارجة عن العلم من مشكلات كبيرة في المفاهيم والتعاريف والتوضيح. اتهامات وقلّة فهم وتغيير في الجوهر الأساسي لهذا المفهوم من قبل رافضي حقيقته والمدافعين عنها على حدّ سواء. توضيح هذا المفهوم بصدق لا لبس فيه واجب على الطرف الذي يقدّمه.
ستكون هذه المادّة البسيطة محاولة للإجابة عن أسئلة أولية وتوضيح لبعض المفاهيم الخاطئة حتى يتمكّن المحاور والمناقش إدراك مشكلة التطوّر – خروف العلم الأسود. ورغم أنّ ملفّ الأوان طرح الفكرة بمصطلح الدارونية إلا أنّ المعنى المقصود بكلمة (الداروينية) يختلف حسب الجهة التي تستخدمه.
ما هو التطوّر؟
يعاني التطوّر من قلّة فهم خطيرة في أغلب الأوساط الخارجة عن العلم – حتى في قواميس اللغة، نقرأ في قاموس ويبستر الشهير على سبيل المثال أنّ التطوّر هو: a theory that the various types of animals and plants have their origin in other preexisting types and that the distinguishable differences are due to modifications in successive generations – أي: التطوّر هو نظرية تقول أن الأنواع العديدة من الحيوانات والنباتات تملك أصولاً وجدت في أوقات سابقة وأن الاختلافات التي يمكن تبيانها هي نتيجة التعديلات التي جرت على هذه الأنواع في أجيالها السابقة.
التعريف السابق خاطئ، فقد حصر التطوّر في (الحيوان والنبات) مستثنيا كل أشكال الحياة الأخرى كالفطور ووحيدات الخلية مثلاً. أيضا القول بأنّ التطوّر ارتقاء خطأ شائع.
ليست الأنواع الموجودة الآن أفضل من سابقاتها أو حتى أرقى بالمطلق.
هي فقط أنسب في بيئتها الحالية كما كانت القديمة مناسبة لبيئتها السابقة.
أيضاً زيادة التعقيد نتيجة من نتائج التطوّر وليست ماهية التطوّر
فالتطوّر يحدث نتيجة آليات عمياء محكومة بالتكوين الحيوي للكائنات والبيئة التي توجد فيها وعوامل أخرى لا مجال لذكرها كلها هنا - تلك الآليات تقود لانقراض أنواع كما تقود إلى تغير أنواع أخرى. ربما كان من الأفضل إعادة النظر في كلمة التطوّر
(Evolution) فهي تعطي انطباعا خاطئاً عن تلك الحقيقة.
يعرف علماء التطوّر هذا العلم الآن على أنه التغير الحاصل على الصفات الوظيفية والشكلية والحيوية في مجموعة حيوية خلال فترة زمنية تفوق معدلات أعمار جيل كامل منها سواء كان هذا التغير معقداً أو بسيطاً. فهو تغير ليس إلا.
وكل ما في الوجود الذي نعرفه خاضع للتغيير، ما قام به دارون هو إخراج الأحياء – ومن ضمنها الإنسان – من استثناء الثبوت وعدم التغير، وهو أمر أصاب الإنسان بكبريائه وتعاليه عن سائر الموجودات – ذلك التفوّق الذي خلقه عقله المعقد.
الدارونية والدارونية الجديدة (المتجددة)
"الدارونية" مصطلح أطلق على الفكرة الأولية التي قدمها وشرحها دارون في أبحاثه – أطلق تلك الكلمة على التطوّر الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر بعد أن قرأ "أصل الأنواع" لداروين. هو أيضاً من خرج بفكرة (البقاء للأصلح - وليس الأقوى كما تتم ترجمته أحيانا بشكل خاطئ – مصطلح سبنسر أبضاً منقوص ويجب أن يكون "البقاء للأنسب ضمن بيئته").
يختلف القصد من استخدام كلمة "الدارونية" وفقاً للجهة التي تستخدمه في خطابها. استخدم النازيون الدارونية لتبرير نظريات التفوّق العرقي التي خرجوا بها وتمثلت فيما بعد تلك الأفكار في نظرية النقاء العرقي واتخذت طابعا اجتماعيا وسياسيا عنصريا يقول بالنقاء العرقي واصطفاء أعراق من البشر على حساب أعراق أخرى. لكن فكرة اليوجينيكس Eugenics - والتي كانت فكرة غالتون أحد أقرباء دارون (مشروع تصفية العرق البشري) - تبددت مع سقوط النازية بعد الحرب العالمية الثانية.
أيضا أمسك نقاد التطوّر بكلمة "الدارونية" على أنها مبدأ ثابت لا يتبدل فكانوا يلمحون بأيديولوجيتها ويجعلون كل مقارباتهم لها (أيديولوجية) لا علمية منذ خروج المصطلح على يد سبنسر وحتى يومنا هذا؛ يتم هذا الأمر في المجتمعات الأكثر بعدا عن حقيقة التطوّر العلمية – مجتمعاتنا أفضل الأمثلة.
أما "الدارونية المتجددة" – لا الجديدة كما قد تترجم أحيانا (تدعى بالانكليزية Neo-Darwinism وليس New Darwinism) فهي الشكل المتطور عن الدارونية والتي أدخلت آليات جديدة ومفاهيم جديدة لفهم أكبر وأكثر عمقاً للتطور، اعتمدت على تطور علم الجينات بشكل أساسي. أيضاً الدارونية المتجددة أفرزت الدارونية الإجتماعية. ورغم أننا نجد اعتراضات على استخدام مصطلح الدارونية المتجددة إلا أنها الآن تصف نظرية التطوّر بشكلها الحديث بشكل عام في اغلب النصوص التي ترد فيها. وهو أقرب ما يمكن لمفهوم التطوّر.*
نقد خطاب الخلقيين
يملك الخطاب المعارض للتطور أوجه فساد كبيرة نحاول إلقاء الضوء على أهمها:
- حصر نقد التطوّر بنقد ما قاله دارون من مئة وخمسين عاماً. صحيح أن ما قدمه دارون هو حجر الأساس لهذا العلم والإعلان الأول الصريح بحدوث التطوّر لكن دارون لم يقل أنه قد أنهى دراسة التطوّر كاملاً أو أنه أعطى الأجوبة الكاملة.
مثلا كان دارون على علم بآلية واحد فقط من آليات التطوّر هي الانتخاب الطبيعي، ورغم أنه تحدث عن اختلاف الصفات الوراثية عبر الأجيال إلا أنه لم يكن على دراية بآليتها والطفرات الجينية التي تسببها.
وصل التطوّر اليوم إلى مرحلة يناقش فيها عشرات الآليات يشكل الانتخاب الطبيعي واحدة منها. المشكلة في الأوساط الناقدة للتطور – وهي الأوساط الداعمة لفكرة الخلق – أنها في لا وعيها تسقط المقدس والثابت على كل شيء، حتى على النصوص العلمية والمعرفة البشرية، والتي لا معنى لها إن لم تتطور وتتوسع.
وهو أمر لا يظهر فقط في التطوّر بل في الكثير من الأفكار والفلسفات والنظريات – فهم مثلاً ينقدون فكر ماركس وكأنه كتاب الماركسيين المقدس أو فكر هيغل وكأنه مقدس أو ديني.
وكما أن هيغل لم يقل (اليوم أكملت لكم ديالكتيككم وقدمت الفهم الأمثل والأخير للفكر والإنسان ورضيت لكم الديالكتيك ديناً)
فإن دارون - كونه عالما - أيضاً لم يقل أنه قدم الجواب الشافي والشامل أسباب التطوّر الحيوي.
هل قدم مثلا نيوتن الجواب الشافي للجاذبية؟ أو حتى أينشتين؟
لماذا لا نجدهم إذا يهاجمون نيوتن وأينشتين ويقولون ببطلان الجاذبية؟
لأنهما بكل بساطة لم يهدما فكرة دينية بالوضوح الذي هدم به دارون قصة الخلق.
- اقتطاع الجمل والتصريحات العلمية من سياقها وتعميمها كأدلة نافية لحدث التطوّر متجاهلين أو جاهلين أن حدوث التطوّر لم يعد مجالا للنقاش، بل آلياته.
هنا أيضا يظهر الخلط الكبير بين (عوامل / آليات / نتائج التطوّر) و(التطوّر) كحدث تاريخي يفسر التنوع الحيوي. هذا الخلط الشديد ينطلي على العامة بسهولة.
يزيد ناقدو التطوّر هذا اللبس حين يبدؤون باقتطاع بحوث واكتشافات علمية تناقش التطوّر أو تجارب واختبارات تناقش أو تنقض أو تصحح آلية تطورية أو فكرة علمية أو نظرية حول حدث تاريخي بيولوجي أو أنتروبولوجي وإيرادها كأمثلة داعمة مدججة بلغة ومصطلحات علمية تجعل المتلقي يعتقد بقوة الطرف المحاور علمياً ويقول في نفسه (هؤلاء يعرفون عن ماذا يتحدثون).
تكمن المشكلة في تصديق العامة لهذا الأمر، وأحد الأسباب هو:
انعدام وجود أي فكر أو قاعدة فكرية إيبستمولوجية لدى المتلقي، أو حتى مفاهيم أساسية عن الفرضيات والنظريات والحقائق والتجارب والملاحظة أو حتى أسس المنطق، بالإضافة لتواطئ الإعلام العربي عامة وسحقه للفكرة وتهميشها.
- الاستشهاد بحوادث التزوير والأخطاء التي ظهرت في الوسط العلمي متناسين أن من كشفها ونقدها هو الوسط العلمي الداعم للتطور والذي يملك أقوى آلية تصحيح ذاتي مبنية أيضاً على أسس نظريات المعرفة البعيدة عن العامة بشكل عام ومجتمعاتنا بشكل خاص.
- تسطيح فكرة التطوّر وتحجيمها في مقولات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها صبيانية وبعيدة كل البعد عن ما قصده دارون ودعمه فيما بعد العلم الحديث كـ "لماذا لا نجد قرداً يلد إنساناً؟" أو "لماذا لا تتطور القردة إلى بشر؟".
أخيراً
أدعو القارئ إلى إلقاء نظرة سريعة على أشهر المجلات العلمية المتخصصة بأخبار العلم.
لن نتحدث هنا عن المجلات علم الأحياء المتخصصة بل عن مجلات علمية عامة
1 - خمسون خبرا واكتشافا وبحثا جديدا نشروا في مجلة "العلوم اليومية" تدعم التطوّر في الأشهر الست الماضية
2 - في مجلة "أخبار العلم" الرقم وصل إلى ستين
3 – في "العلوم الأمريكية" حوالي الأربعين خبر.
تلك الأخبار تتنوع بين علم الإنسان (الانتروبولوجي) وعلم الحيوان (الزوولوجي) وعلم الجينات وعلم الأحافير (الباليونتولوجي)، وعلم السلوكيات، وعلم النفس، وعلم الأحياء، وعلم الجراثيم، وعلم النبات، وعلم اللغويات والكلام.
قائمة طويلة خلال نصف السنة الماضي فقط - كلها لم تعد مضطرة للقول أن التطوّر حقيقة بل ترفده بمعطيات وتفاسير جديدة بغزارة. فهل لازلنا نقول عنزة ولو طارت؟
هامش:
* بعد التقدم والتطوّر الذي حققته الدارونية في القرن الماضي مابين عامي 1937 و 1950 أصبح الإعلام يشير لنظرية التطوّر المتجددة بمصطلح (الدارونية المتجددة - Neo-Darwinism) إلا أن إيرنس ماير أحد علماء التطوّر البيولوجي أشار إلى أن استخدام مصطلح الداروينية المتجددة لا يجب أن يصف التطوّر لأنه استخدم سابقا لوصف تعديلات أدخلها عالم سابق في التطوّر أواخر القرن التاسع عشر.[/quote]