دعنا نتخيل معك إلها روحانيا ، والذي استقر عليه بحثك ، مع أنك من الواضح أنك لم تقتنع به تماما ، وهذه أهم نقطة , وميزة أيضا لعقلك وشعورك اللذان لا يتقبلان بسهولة أي شيء دون اقتناع كامل ، أولا : من الخطأ القول أن الإنسان روح بلا جسد ، مثل خطأ الماديين والملاحدة بأن الإنسان جسد بلا روح ، ومادة بلا معنى . الإنسان روح و جسد ، والروح أهم من الجسد .
وبالنسبة لهذا الرقي الذي يطالب به إله اللادينيين , فأولا : هذا الإله لم يرسل لهم رسالة ، بل فقط تخمينات من عندهم لمّا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من الفكر المادي العقيم , فكيف عرفوا أن هذه هي طلباته ؟ فهم ليسوا أنبياء وهو لم يرسل أنبياء كما تؤكدون ذلك , فكيف حددتم طلباته بأنها رقيّ الأخلاق ؟ يستطيع إذاً أي أحد أن يضيف أمورا أخرى ، ويقول أيضا أنها من عند الله , ولن تستطيعوا أن تحجّوه بسؤال : ما دليلك ؟ لأنه سوف يوجّه السؤال لهم أيضا.
هذا الإله السلبي البارد ترك الحبل على الغارب لمن أراد أن يظلم أو يكذب بدون عقوبة , وفي نفس الوقت يطالبهم بالرقي الروحي والأخلاقي !! هذا هو إله اللادينيين . تستطيع ان تنتقد هذا الإله بعقلك كما انتقدت آلهة الأديان وبسهولة , وها أنا ذا أصوّره لك , فهو ربٌ لم يحدد الأخلاق نفسها والرقي , فربما بعض أتباعه يظن انه يمشي في الطريق الأخلاقي ، لكنه في الحقيقة على طريق خطأ , وهذا الإله خلق الخلق وأدار لهم ظهره , ويراهم يتخبّطون بالعذاب والحيرة بسبب الجهل والظلم ، ولا يخبرهم عن الطريق السليم لحياة سليمة !!
من هذه صفاته ، كيف يُطالب الناس بالرقي وهو نفسه لم يرتقي ؟ فهو لا يجازي المرتقين والمحسنين ولا يعد بحياة أخرى , فالتعيس يموت على تعاسته والطاغية يموت على طغيانه , والعدل يُعتبر من الرقي الاخلاقي والروحاني ، بينما هذا الإله لم يهتم بالعدل ولم يعد بتحقيق العدالة ، إذاً هو غير عادل ، وبالتالي غير راقي ، ومن يتبعه سيكون حتما مثل صفاته ، والنتيجة التي يقدّمها هذا النوع من الإيمان هي نفس نتيجة الإلحاد الجافة المميتة , هذا إيمان لا يُسمن ولا يُغني من جوع , فهو لا يجزي المحسن ولا يروي ظمأ المتعطش للعدالة وجلاء الحقيقة , وهذا ظلم من هذا الإله . ولطالما اختلف الناس على الحق , وتمنوا أن تتجلى ساعة ينكشف فيها الحق ، ويظهر مع مَنِ الحق بين المختلفين .
ثم ما الذي يلزم الإنسان الروحاني بالتمسك بالرقي الاخلاقي وتطبيقه في حياته وتعليمه الآخرين وهو يرى الهه لا يتمسك به ولا يطبقه ولا يعلمه للآخرين؟ فضلا عن أنه لا يكافئ عليه ، ولا حتى بالمحبة لهم ، لأنه لا يوجد محبة بدون مظاهر تدل عليها ، وهو لا يقدّم لا مظاهر ولا جوائز ، مما يعني أنه لا يحب المرتقين ، مع أنه خالق لهذا الكون ومدبّر له ، ومع أنه غني ، وهذا يدل على عدم اكتراث منه بالأخلاق .
أما رب الإسلام فهو معتنٍ جدا بالاخلاق كالصدق والوفاء بالعهد والصبر والإخلاص والعدل ، حتى مع الأعداء ، ويحاسب على النوايا وليس على الافعال ، و يهمّه صلاح النية أكثر من صلاح العمل : {إلا من أتى الله بقلب سليم}, فهو يجعل الثواب والعقاب مترتباً على الأخلاق كنيّةٍ لها , نعم هو الإله الذي يهتم بالرقي الروحي ، وهو الوحيد الذي يهتم بالأخلاق بشكل متكامل ، وأستطيع أن أثبت ذلك مع مقارنته بكل صور الآلهة الموجودة ، فـ{كلمة الله هي العليا} ، أي الأرقى, ولا تجعل قياسك على واقع المسلمين حتى لا يصرفوك عن الحقيقة , فآفة الرأي الهوى , وأكثرهم اتّبع الهوى أو اتبع من اتبع هواه .
ألا تحسّ أنك تتمنى أن تنكشف الأمور ويُعرف من المخطئ ومن المصيب في هذا العالم ؟ هل هو أمر جيدُ ان نجهل الحقيقة أحياء ، ونجهلها بعد الموت ؟ هل يتناسب هذا مع باحث عن الحقيقة مثلي ومثلك ؟ إن إله اللادينيين الأخلاقي (جداً) لا يعنيه أمر تساؤلنا وتحرّقنا لمعرفة الحقيقة ومن الظالم ومن المظلوم في هذه الحياة , أي أنه إله روحاني لا يهتم بالمعرفة ، وهو إله نرجسي مشغول بتأمل جماله وجمال لوحاته ، غير مكترث بعذاب هذه اللوحات وانحرافها عن الطريق الصحيح , ومن دون معلومة إرشادية منه تشير إلى الصراط المستقيم . فالحقيقة ضائعة حتى بين الزوج وزوجته , وكلاهما يظن أنه مظلوم من الآخر, فما بالك بالتاريخ والسياسة والاقتصاد والعلم والإيمان , إلخ؟
- إن المرء الباحث عن الحقيقة يكفيه من الآخرة أنه سيعرف الحقائق عندها ، وإن كان على خطأ أو على صواب , وعندما كان يقول أنا على صواب وكان الناس يقولون له أنت على خطأ ، وربما آذوه على ذلك , فالمؤمن في الدار الآخرة يقول : تربصوا إنا معكم متربصون, هذا التعطش للمعرفة التفصيلية لا يجاوب عليه إلا إله القرآن ، وليس إله اللادينيين الغير واعي وضعيف الشخصية ، والذي لا يعي شيئاً من حاجات الإنسان الملحّة .
وانكشاف الحقيقة عند الإنسان العاقل والشريف ثمرة بحد ذاتها, وأهل العقول الكبيرة تعنيهم المعرفة أكثر من غيرهم , فانكشاف الحقيقة يكفي الإنسان الشريف للتسامح , ولهذا فهو يقبل الاعتذار ممن أخطأ ، لأنه اعترف بالخطأ ، أي اعترف بالحقيقة, وهذا ما يجعلنا نحب من يعتذر إلينا إذا أخطأ ، لأنه احترم الفضيلة والحقيقة , أي ساعدنا باعترافه على معرفة الحقيقة , التي هي حاجة أساسية في الإنسان مثل حاجة الأكل والنوم.
هذا الإله الروحاني لن يهدي أي هدية للمحسنين رغم قدرته , فما أشد بُخل هذا الإله, وما أشد حاجة الإنسان إلى إله عطوف رحيم كريم. والبخل ليس من الرقي الاخلاقي ، فهو يرى المجرمين وهم يسملون عيون الأطفال ويبقرون بطون الحوامل ولا تهتزّ فيه شعرة ، ولا يتوعدهم بشيء . وهذا نقص في المروءة والنخوة وليس من الرقي الأخلاقي . بل يراهم يسخرون منه شخصيا ولا يكترث , هذا إله لا يُعتمد عليه ، و وجوده كعدمه . فإذا كان العبد مثله يدير ظهره على الفضائل ولا يكرّم ويشكر الطيبين ولا يمنع المخطئين, فهل تصفه بأنه مرتقي؟ بل ولا يكلف نفسه حتى بالكلام والنصيحة ! إنسان بهذا الشكل لا نستطيع لا أنا ولا أنت أن نسميه إنساناً مرتقيا فاضلا ً ، بل هو أقرب للغرور واللامبالاة والظلم والتكبر, فما بالك عندما يكون إلهٌ بهذه الصفات السلبية؟
اقتباس:"لم القى ابداً اجابه على السؤال الفلسفى كيف يعذب الله بمده غير محدودة الزمن (النار خالدين فيها) وذلك على اقتراف الانسان لذنب فى وقت محدد الزمن .. انه تماماً مثل الذى يضرب تلميذ كل يوم على واجب لم يفعله مره واحده"
أحيانا يكون تنفيذ الخطأ مؤقت ، لكنك لم تنتبه إلى أثار الخطأ غير المؤقتة , نعم عملية القتل ربما تستغرق 5 دقائق أو أقل , لكن آثارها على الضحية وأهل الضحية والرعب الذي نشرته في المجتمع ومن لديهم نوازع اجرامية شجعتهم مثل هذه الحادثة واختلال الامن , إلخ.. هل تكفي 5 دقائق لتُمسح هذه الآثار؟ إذاً لا ننظر لوقت فعل الخطأ بل لآثار فعل الخطأ . ولذلك فبعض الاخطاء أخف من بعض ، حسب الامتداد وسعة الأثر ، وهم لا يسجنون المجرم 5 دقائق فقط لأنه نفذ الجريمة بخمس دقائق , وذاك الطالب المتأخر في اداء الواجب بينما نيته واعماله الاخرى كلها في صالح الدراسة ، فهو في هذه الحالة ضرّ نفسه ، فهو يمتد أثره على نفسه أكثر من غيره ، وهذا مثال غير مطابق تماما .
والخطأ الذي ارتكبه الكافر لا يقارن بخطأ الطالب ، لأن الكفار لم يرتكبوا خطأ واحداً ، بل أخطاء عديدة مستمرة طوال حياتهم ، وحتى المؤمنين يقترفون بعض الذنوب ومع ذلك الله وعدهم بالغفران لها إذا تابوا، لأنهم اختاروا الحق طريقا للحياة ، بينما الكافر اختار الباطل طريقا للحياة ، فالطالب في المثال أخطأ في جزء ، بينما الكفار المعاندين اخطأوا في الكل ، والمعلم في مثالك يضربه كل يوم ، هو يعاقب الكل على جزء . ويبدو انه لا يقبل التوبة ، لأنه لو احضر الطالب الواجب سيستمر بالعقاب ، والله لا يفعل ذلك ، فالله يغفر الذنوب لمن أناب (أي غير نيته). والحقيقة أن آثار فعل الخطأ لا تنمحي أبدا ، وفلسفيا لا تجد خطأ امّسحت كل آثاره , وما تعاسة البشر إلا نتيجة مباشرة او غير مباشرة لأخطائهم أو لأخطاء الآخرين في الحاضر أو الماضي .
{إن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}
فالحساب غير العقاب, فالحساب شيء والعقاب شيء آخر, فالله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, فالنية السيئة التي لم يفعلها الشخص المؤمن سيحاسب عليها وتعرض عليه يوم القيامة ولكن لن يعاقب عليها.
هناك شيء تفكر فيه وتنويه ولم تفعله وشيء فكرت فيه لكنك لم تنويه وهذه درجة أقل, وكلها ستحاسب عليها وتعرض عليك يوم القيامة وسيغفرها الله سبحانه.
ودرجات تنفيذ العمل هي التفكير - وهو التصور- , والنية - وهي سبق الإصرار على التصور- , والعمل أو التنفيذ الفعلي .
والمؤمن لا يريد أن ينوي نية سيئة حتى لو لم يفعلها ؛ لأنه يستحي أن يقابل بها ربه.
ولا نقول أن الخطأ مؤقت ، فكيف يُترك بلا عقاب أو يُعطى عقابا مؤقتا وآثار الخطأ غير مؤقتة ؟ هذا ليس من العدالة . كذلك الإحسان مؤقت التنفيذ وغير مؤقت النتائج , وما عندنا من أشياء حسنة ماديا أو معنويا هي نتيجة لصوابنا أو صواب الآخرين في الحاضر أو في الماضي , وليس من العدالة أن يقدّم الله هدايا للمحسنين بناء على أوقات فعلهم للحسنات, فمدة تسليم النقود للفقير لا تستغرق 5 دقائق, فهل يدخل الجنة 5 دقائق ويخرج ؟ إذاً الأعمال ليست مرتبطة بالأوقات بل بالنيات. والحسنة لا ينتهي تأثيرها بوقتها , فالكلمة الطيبة كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين, وأكلها يحمل بذورا لحسنات جديدة, والله في القرآن جعل الجنة لهذا السبب جزاءً غير محدود مثلما الحسنة غير محدودة ، والنار عقابا غير محدود مثلما الإساءة غير محدودة, هذا بشكل عام ، لكن من رحمة الله أنه لم يطبق قانون النيات بالكامل ، فمن همّ بمعصية ولم يفعلها لا تحسب , ومن هم بحسنة ولم يفعلها حُسبت له , فمن تعامله هكذا لا يجدر أن نسميه إلها ساديا يريد ان يشوي الناس, بل يقال عنه أنه عادل ويحب أن يرحم الناس, فهو يطبق العدل لكنه يميل للرحمة , هذا من تحري العدالة في الوصف ، ولو أن أحداً من الناس يفعل هكذا لقلنا عنه أنه عادل ويحب الرحمة , فلماذا لا نقولها عن الله وهو الوحيد الذي فعلها ؟
كلما تقترب من الله كلما تخف مقاومة الرذائل : {ونيسره لليسرى} ، وتنقلب الرغبة السابقة إلى نفور ، مثل المغناطيس . فنفس الإنسان كالمغناطيس ، فإذا وجّهتها للمادة فستنجذب لها , وإذا عكسته عنها تنفر منها , والإنسان الذي يحتكّ بالمادة يكتسب مغناطيسية للمادة . فمن يريد الدنيا و تُتنزع منه بعض الاشياء الدنيوية من أجل لآخرة فسيكون النزع ثقيلاً عليه , وتجده يحاول أن يتتبع الرُّخَص تبعا لهواه .
وهذه هدية من الله للمؤمنين بأن يكرههم بالرذائل : {وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان} ، وهذه تضاف للهدية السابقة وهي مضاعفة الحسنة ومسح النية السيئة ، إضافة لهدية أخرى وهي تبديل السيئات حسنات , كل هذا ويقال عن الله أنه سادي وأن طريق الجنة صعب . هذه نعمة عظيمة ولا يعرفها إلا من جرّبها ، فليس هناك شيء اسهل من الدخول للجنة . فالله يعطي المؤمن الحق نفوراً وكراهية من الذنوب , فطلبات الله يؤيدها الشعور الإنساني ولا يتعب منها.
فعجيب أمر المؤمن الصادق, فهو في نعيم وسهولة في الدنيا ونعيم في الآخرة , وتضحية المؤمن الصادق بالعاجل من أجل الآجل سيعوضه الله عنها.
ثم فهمك أن الله يريد أن يعذّب لأجل العذاب فقط يحتاجُ إلى مراجعة , تصوّر أن القرآن أخبر عن الكافرين أنهم سيعذّبون مؤقتا , سوف تسأل : كم المدة ؟ فلو قال لك مثلا : 100 سنة في النار, ستقول عن هذا أنه أمر فظيع , وسينفتح باب الأمل للكافر قليلا , ونقول لك : كم تريد إذاً ؟ 50 سنة ؟ ستقول أمر فظيع, انفتح الباب أكثر للكافر! 20 سنة في النار؟ ستقول أمر فظيع , 10 سنوات ؟ ستقول أمر فظيع, في الوقت نفسه , ينفتح الأمل أمام المعاند , فهو سيقول 10 سنوات واخرج ! هذا امر سهل ! كما قال كفار بني إسرائيل : (لن ندخل النار إلا أياما معدودات) ، وسيأتي من يقول من المعاندين أن الله بتسهيلاته للعقوبة هو الذي أغرانا بالذنوب ، ولو أنه تشدد بالعقوبة لابتعدنا عن الذنوب , ومن هنا كان وعدُ الله للكافرين المعاندين رحمة بهم , لأنه أغلق باب الأمل بالنجاة من خلال الرذيلة بالكامل , ويحقّ له حينئذ أن يقول لا تلوموني ولوموا أنفسكم , مما يدفعهم للتفكير وإعادة النظر في منهج حياتهم .
وعندما تَدرس هذه القضية بحيادية ستجد ان هذا الحل هو أعدل حل وأرحم حل , لأن ترك العقوبة خطأ والتساهل في العقوبة خطأ وتحديد زمن العقوبة خطأ . ودائما القانون المتساهل بالعقوبة والمليء بالثغرات يُغري اللصوص .
وربما تسأل لماذا التعذيب بالنار خصوصاً ؟ إذاً ماذا تقترحُ أسلوباً للتعذيب غير النار ؟ كل الأساليب لن ترضيك ، السجن مثلاً ؟ السجن سيء لأنه فظيع ، ولا يردع بقوة ردع النار ، والنار متناسبة مع آثار الذنوب ، أليس سبب الذنوب و الأخطاء هو المادة ؟ أليست النار لديها القدرة على القضاء على المادة كلها ؟ المادة هي سبب كل الذنوب ، والنار تُفني كل المادة ، وهل يوجد شيء ألمه من الممكن استحضاره مثل النار ؟ ولا توجد مقاومة للنار أبداً ، فبعض وسائل التعذيب ربما لا يُتصور فظاعتها بقدر ما تُتَصوّر النار, والناس يختلفون على فظاعة وسائل التعذيب لكنهم لا يختلفون على فظاعة ألم النار, فبعض المساجين مثلا يرى السجن الانفرادي أسوأ من الموت ، وبعضهم يراه فرصة للتأمل, والأشغال الشاقة فظيعة على ضعيف الجسم ، وتسلية ورياضة عند قوي الجسم , فالسجن تختلف فيه النظرات ، بينما لا يوجد أحد لا يعرف مدى الألم الناتج من النار ، فالكل يدرك خطورتها بنفس الدرجة ، وهذا من العدالة ، ولو اختلف التعذيب بالنار ، ماذا ستقترحون ؟ كل الاساليب فظيعة ، ولكن من رحمة الله ان يتوعّدهم بالنار ؛ لأنهم كلهم يعرفون ألمها ، والنار منيرة والكل يعرفها ، كما أن آلامها مباشرة .
هل تريد إلهاً لا يعذّب أبداً ؟ أم يعذّب لمدة زمنية ؟ وسوف تستفظع المدة وسيكون خلاف عليها ، أم تريد منه أن يفنيهم ويبعث المؤمنين للجنة ؟ إذاً أين جزاء الكفار على ذنوبهم وأخطائهم ؟
وبالنسبة لموضوع التفاوت في الذنوب والعقاب ، فالله سيحاسبهم بعدل ولن يضيع حق أحد من الخلق .
منطق اللاعقوبة الذي تنطلق منه يجعلك لا تقبل بأن يُعاقب أحد , وهذا غير منطقي , كثيرٌ من الناس لا يعلم ان هذا الأمر خطأ وفظيع إلا عندما يرى احداً يعاقب من أجل هذا الشيء , أو لأنه ترتّبت عليه عقوبة , فأي موضوع لم تُرَتَّب عليه عقوبة فالناس يرونه شيئا سهلا , وحينئذ ينتبه ويفكر فيه ليكتشف أنه رذيلة , فالمثوبة والعقوبة وانعكاسيهما - أي الترهيب والترغيب - بشكل عام هما أساس التربية . وحياتنا اليومية قائمة على تحذيرات وترغيبات ، ولم يُترك الناس في معيشتهم كما يفعل إله اللادينيين, وما أكثر التحذيرات المكتوبة والمسموعة من الأرصاد الجوية والمرور والأطباء ومن المطافئ إلخ.., ولو أن الحفريات لم تضع لوحات تحذيرية ، لهلك كل من يمر على الطريق ، مع ان الحفرة موجودة ولهم أعين يرونها بها .
ومن هنا اقتضت الأخلاق الإلهية أن يبعث للناس رسلٌ يحملون رسالات فيها كلام الإله شخصيا , ولو كان هؤلاء الرسل ملائكة أو جنساً آخر غير البشر ، لكان الأمر منكشفا وفظيعا ولا يفيد في الاختبار شيء . إن انشغال الناس بالحياة لا يجعلهم يفكرون بالصواب والخطأ والفضيلة والرذيلة تلقائياً ، لأنها معنويات ، و هم منشغلون بالماديات , ولولا الهديّة والعقوبة لم يتعلم التلاميذ الصغار في المدارس , وكذلك يفعل الإعلام , والعقوبة والمثوبة هي من قوانين الطبيعة (قانون طبيعي), فإذا أكرمت الشجرة وسقيتها فستعطيك المثوبة , وإذا حطّمتها بالفأس تموت و تأتيتك العقوبة عندما تُحرم من الثمرة .
حتى شعورنا نفسه يتعامل معنا بمبدأ الثواب والعقاب ألا ترى أننا إذا فعلنا أمرا سيئا يعاقبنا إحساسنا بالندم والكآبة والمرض ؟ وإذا فعلنا امراً حسناً كافأنا بالبهجة والسعادة والعافية ؟ إذاً كل شيء يُعاقب ويُكافئ , وكل شيء خلقه الله , فكيف نستنكر عندما يعاقب الله بنفسه أو يكافئ ؟ ولاحظ أن العقوبات في الطبيعة لا ترحم ولا تستطيع أن تحدّد لها وقتاً, فإذا لم تحترم قواعد المرور فستصطدم بعنف ، وربما تتكسّر عظامك وتستمر طوال حياتك مقعداً , فهل نغضب على الحديد حينها لأن عقوبته شديدة ؟ ونقول أن آلهة الحديد لا ترحم ؟ بل حتى آلهة الورد التي تغرس شوكها بأصابع من يمسكها لا ترحم , فإذاً لا شيء يَرحم إلا الصواب , فعندما تتقي شوك الوردة ، تستطيع أن تستمتع بجمالها وبعبيرها , وعندما تتّقي السرعة والتهوّر ستستفيد من السيارة , وعندما تتقي الله ستستفيد من حب الله وعطايا الله وتبتعد عن عقوبته . والكل عقوبته لا ترحم , فلماذا نستفظع عقوبة إله الطبيعة ولا نستفظع عقوبة الطبيعة ؟ فالكهرباء لا تترك من يمسكها حتى يتفحم إحتراقاً , وذنبه انه لم يتقيها . فالعقوبة تساعد على الفهم .
المثوبة والعقوبة هي الطريقة الوحيدة التي يفهم بها الإنسان, سواء من الله أو من الطبيعة , وإلا لما فهم الإنسان شيئاً , والتعلّم بطريقة التجربة والخطأ التي يتبنّاها الغربيون هي عن طريق اكتشاف الثواب والعقاب.
الإنسان بتكوينه ضعيف ومحتاج ، فليس قويا مستغنيا , فهو يتعرّض للأذى ويحتاج لمن يعطيه , ولو كان قويا ومستغنيا لانتفت فكرة وجود إله , لكن الإنسان دائما ضعيف ويطلب .
ثم هل أنت تقبل بمنهج اللاعقوبة في الدنيا ؟ بأن تُلغى كل العقوبات وبالتالي التحذيرات والإرشادات- فهي مرتبطة بعقوبة- ويُفسح المجال للجميع ليفعلوا ما يشاؤوا ؟ هل ستسامح كل من يعتدي عليك ؟ فالذي يكذب عليك ويسرقك ويغدر بك تقول : لا تعاقبه ، العقوبة فظيعة ، والسجن المؤبد و قطع يد السارق فظائع , وستستمر على هذه النغمة , والغرامة المالية امر فظيع وهو لا يملك مالاً , وإيقافه في مركز الشرطة وتعطيله أمر فظيع ولا يحبه , لا أظنك تعتقد بهذه الأشياء و أنت في الدنيا . فإذا كنت تقبل بوجود العقوبة في الدنيا فكيف لا تقبلها في الآخرة ، والآخرة دار العدالة ؟ ففي الدنيا تسمي العقوبة عدالة ، والمظلوم يلجا للعدالة ، والمحاكم لتعاقب المعتدي .
هذه الروحانية التي تتحدث عنها لا تنسجم مع المنطق والواقع , فإما أن تأخذ المنطق كله ، أو تتركه كله ولا تستعمله بالكامل ، وتكتفي بالروحانيات ورفض العقاب , مع أنك تستعمل العقاب في حياتك اليومية , فكيف نفعل شيئاً ثم نستنكره إذا فعله الإله العادل ؟
ولاحظ أن الكافرين الذين توعّدهم الله بالعقاب الأبدي ، لا ينطبق هذا الوصف (الكافرين) على غير المسلم , فالكافر المعاند سيء الأخلاق شيء ، وغير المسلم شيء آخر.
اقتباس:"لم اقتنع ان الفلتر لدخول الجنه (اذا اعتقدنا بصحة الاديان) صعب وغير محدد المفاهيم لهذه الدرجه (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم) .. اى بهذا المنطق يكون الغالبيه العظمى من البشر فى النار يعذبون ويتم شويهم .. اى ان الله خلق البشر ليعذبهم فى الدنيا والاخره .. طبعا انا لم اقتنع بهذه الصوره عن الله الخالق ابداً"
عجيب انك تستقلّ المفاهيم التي تدخل الجنة, ولا تستقلّها من إله الروحانيين الذي لم يقدم ولا مفهوما واحدا ولا لوحة إرشادية واحدة ! ولم يقدّم كتابا إرشاديا بآلاف الآيات ! بينما نرى أن الطريق للجنة واضح ، وليس بهذا الإشكال الذي تتصوره : {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ، الصالحات أي الفضائل و القلب السليم , أما الخطأ الغير مقصود فلا يُحاسب الإنسان عليه , أليست النية واضحة لصاحبها ؟ هذا هو مفتاح دخول الجنة : نِيّاتك .
أما أن تقول كلمةً لا تنوي مضمونها ثم ترمي بك في النار سبعين خريفا ، فهذا الفهم ومن ينسبه للدين خاطئ , إن أعظم ميزة في الإسلام هي أنه ينظر في جانب النيات التي نعرفها والتي هي واضحة المعالم عندنا , حتى لو أخطأت الفعل ولكن بنيّة حسنة فلن تُعاقب ، ولو أصبتَ بنيَة سيئة فأنت مُعاقب : { بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} , لا شيء واضح لنا بقدر وضوح نياتنا ، بل هي الشيء الوحيد الذي نعرفه بالتأكيد.
أما بخصوص الكلمة التي تُهلك صاحبها , فليست الكلمة بحد ذاتها هي من فعل ذلك ، بل النية المسبقة , فأبو لهب مثلاً ، سيصلى نار ذات لهب ليس لأنه قال كلمة عابرة : (تبا لك) ، بل لأن هذه الكلمة ترجمت نيته وكرهه للحق المسبق, نعم ، فهي هوت به 70 خريفا ، ولكن ليست الكلمة بحد ذاتها ، بل النية , ولم يكن أبو لهب إنساناً طيباً ومؤمناً وصادقاً وقال هذه الكلمة من باب المزاح أو الخطأ , ومن يُصوِّر الموضوع من المسلمين بغير هذا التصور ، فمعرفته للقرآن سطحية وغير منطقية , فالله عادل : {وما كان الله ليضيع إيمانكم} , فكيف بسبب كلمة عابرة يدمّر الله كل شيء حسنٍ فعلوه ؟
لاحظ نص الحديث : (من سخط الله) أي أن الله ساخط عليه بسبب ذنوبه من قبل أن يتكلم , والله رحيم ، فهو لا يعاقبنا على النية السيئة قبل أن ترتبط بالعمل القولي أو الفعلي , فما دامت نية الشخص سيئة وقال الكلمة - أي حوّل النية إلى عمل أو قول , فعندها وجبت عقوبته , ولكن النية الحسنة يُكَافأ عليها الإنسان حتى لو لم ترتبط بعمله , مثل من نوى أن يبني ملجأً للمساكين ، وأخذه الموت قبل ان يقوم بهذا العمل . لهذا أقول أنه لم أرى شيئا مثلُ الإسلام ينتقد بميزاته.
ثم من قال أن الإنسان يدخل النار على خطيئة واحدة ؟ لو كان كذلك فما الفائدة إذا من الحساب والموازين ؟
الأصل هو أن الإنسان يحاسب على نواياه كلها , ولكن من رحمة الهئ وتسامحه أنه يكافئ على النية الطيبة ، أما النية السيئة فلا يُعاقب عليها إلا إذا قُرنت بفعل أو قول , لأن عدم تنفيذ النية يدل على أن الشخص ليس متأكداً منها وليس جازماً بأمرها , صحيحٌ أنه نواها ، ولكن عندما جاءت مرحلة التنفيذ أعاد النظر فيها .
شدّة الضغط على العقوبة وحصارها يفتح المجال أكثر للرذيلة, فكلما أَهَنْت العقوبة أكرَمْت الرذيلة - علاقة تناسب عكسي - ، خصوصا إذا لم توجد محفِّزات للفضيلة تُعادِل النقص في العقوبة , والإسلام حفّز للفضيلة أكثر من العقوبة , فـ{جزاء سيئة سيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها} , فهذا تشجيع للفضيلة , ومن تعامله هكذا لا يوصف بالسادية , لو أن من قدّم هذه الحوافز عظيما من البشر ، لما قيل عنه أنه سادي ، بل كريم في غاية الكرم , ولا يوجد بنك ربوي يقدّم على الدولار عشرة دولارات مثلا : {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} ، {كمثل حبة انبتت سبع سنابل} ، هذا منتهى الكرم .
ليس هناك شيء دخوله سهل مثل الجنة , فلا شيء تدخله بالنية إلا الجنة, فأنت لا تدخل الجامعة أو البرلمان او التجارة مثلا بسب نية حسنة , وهذا من رحمة الله , لكن ماذا نعمل إذا كان أكثر الناس لا يريدون ان يدخلوا أسهل مكان للدخول : {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ، أي أنهم ماديين ؛ بدليل : هل أكثر الناس يفعلون الخير أم القلة منهم ؟ هل أكثر الناس يساعدون اللاجئين والمحتاجين ؟ هل أكثر الناس يتبرّعون بأموالهم والقلّة هم الذين لا يتبرعون ؟ هل هذا هو الواقع ؟ هل الذين ينتسبون لمنظمات إنسانية هم الأكثرية والقلّة لا ينتسبون إليها ؟ لو كان الأمر كذلك لصلُحَت الحياة , ولجاز لك ان تستنكر أن يدخل أكثر الناس النار في الوقت الذي تشاهد فيه اكثر الناس طيبين وأخيار وأخلاقيين , ولا يغرّك الإتيكيت والآداب العامة ، فهي شيء والأخلاق شيء آخر .
طبعا الناس الطيبيين هم القلة ولذلك يشتهرون , وهذا كله باختيار الناس ، وليس مفروضا عليهم أن يدخلوا النار وأن يكونوا سيئين وماديين . فهل اللوم على الله أم على أكثر الناس ؟ وهل أنت تحب أكثر الناس ومعجب بهم ؟ دائما أكثر الناس سيئين ، و قلة من الناس هم الطيبين , فأنت لا تعرف الطيب من الناس إلا بعد اختبار, وليس كل الناس وأصدقاؤك معدودين ومنتقين ,
إذا صفا لك في زمانك واحد,,,, نعم الزمان ونعم ذاك الواحد,
ولو كان الناس كلهم طيبين ، لما كان الحذر في التعامل معهم واجب , و لِمَن توضع الأقفال وتُقرع الأجراس ؟ ليس إلا لأكثر الناس , إذاً فنتيجةٌ منطقيةٌ ان يكون اكثر الناس غير مرضين لربهم ، والأقل هم الذين أرادوا أن يرضوا ربهم , لأن أكثر الناس لم يرضوك أنت ولا أنا , والأخلاق ليست عند الأكثرية من الناس ، بل عند القلة . وتعامل الله مع البشر أخلاقي , فنتيجة منطقية أن يكون أكثر الناس خارج رضا الله ، وربما تحت طائلة عقابه في الدنيا والآخرة , فبدلاً من أن نأسى عليهم ، علينا ألا نكون مثلهم ومنهم ، ونحن غير معجبين بتصرفاتهم .
الملاحدة دائما يحاولون ان يصوروا ان أكثر الناس طيبين ، حتى يضعوا اللوم على الله وليس عليهم , ويقللّون من شان أخطاء البشر ، مع أنهم لا يحتملونها إذا وقعت عليهم .
هذا الإله الروحاني يشجّع على الرذيلة ، وبالتالي هو يخدم المادية ؛ لأن الخطايا كلها مادية ، وانقلب الاله الروحاني إلى مادي , وهكذا انتهى منهج الروحانيات .
لهذا نقول : سبحان الله تعالى ، أعدل العادلين ، وأرحم الراحمين, دائما الله هو الأعلى ، في الحق والعدل والأخلاق والقدرة والرحمة .
وسامحني على الإطالة, لأني أحب كل من يبحث عن الحقيقة حتى لو لم يقتنع مني , فمصيره أنه سوف يجدها, والله هو الحق ، ولن يضيع الله من طلب الحق إذا هو تواضع ودعاه , ولو لمرة واحدة .
وشكرا للجميع.