(11-01-2010, 03:20 PM)alterego كتب: أشكرك جداً أستاذ بسام على هذا الجهد في وضع مقالات الأستاذ ابراهيم العريس المثقف المتنوع والذي يكتب بأسلوب سهل و سلس يعرض فيه لمختلف جوانب الأدب والفن.
أشكرك ثانية
thank you for your kind words
«إمبراطورية الشمس» لبالارد: الطفولة في مواجهة الحروب العابثة
الثلاثاء, 02 نوفمبر 2010
ج. ج. بالارد.jpg
إبراهيم العريس
Related Nodes:
ج. ج. بالارد.jpg
من ناحية مبدئية عرف الكاتب الإنكليزي الراحل حديثاً، ج. ج. بالارد منذ عقود أنه من أبرز كتاب أدب الخيال العلمي، كما عرف أدبه، في معظم الحالات، بأنه أدب ينطلق من الواقع ويصب فيه على غرم خياليته التي لا يشق لها غبار. ومع هذا حينما دنا الفن السابع من أدب بالارد، بعد تردد، ولنقل بعد تجاهل طويل، لم يدن من أعماله المنتمية الى الخيال العلمي، بل آثر عليها عملين لا علاقة لهما، مباشرة، بذلك التيار الأدبي الكبير والواسع الانتشار، إذ إنه من ناحية اقتبس فيلماً عن رواية لبالارد هي في الأحرى، جزء من وصفه لسنوات طفولته في الصين خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ناحية ثانية اقتبس واحدة من أقسى وأغرب أعمال الأدب «البوليسي»، وذلك في فيلم حمل عنوان «اصطدام»، وإذا كان الفيلم الثاني قد حمل، حين حقق سينمائياً، توقيع المخرج الكندي دافيد كروننبرغ، الذي اشتهر على أي حال بأفلامه القاسية، لا سيما منها المتعاملة مع شؤون الجسد وتآكله (من «ذبابة» حتى «العنكبوت» مروراً بـ «اكزستنز»)، ما يجعل التلاؤم بين خط الكاتب وخط المخرج طبيعياً، فإن الفيلم الذي اقتبس عن رواية بالارد ذات النزعة الذاتية، كان «امبراطورية الشمس» من اخراج ستيفن سبيلبرغ، الذي لم يتنبه كثر، وسط زحام أفلامه الجماهيرية والتجارية الصاخبة، الى انه في «امبراطورية الشمس» قدم واحداً من أجمل انجازاته السينمائية، كما قدم في مجال السينما المقتبسة عن نص أدبي، واحداً من أكبر النجاحات وأكثرها صدقية. وطبعاً لن ندخل هنا في تفاصيل هذا النقل من الكتاب الى الشاشة، إذ إن الفيلم ليس موضوعنا هنا، بل الرواية نفسها التي صدرت في عام 1984، ولم تنل حقها من الاهتمام، إذ سرعان ما ظهر الفيلم المقتبس عنها ليغطي عليها.
> والحقيقة ان هذه الرواية، في حد ذاتها، عمل كبير يحمل قدراً كبيراً من الإبداع... حتى وإن كان الموضوع الأساس فيها، يبدو للوهلة الأولى معهوداً: الحرب كما يراها صبي صغير عاشها وعايش أهوالها، ثم جلس بعد سنوات طويلة من ذلك الحدث «الذي لا شك قلب حياته كلها»، ليتذكر ويكتب. هذا الموضوع موجود بكثرة، وكثر بالطبع، هم الأدباء الذين حاولوه - كما انهم كثر السينمائيون الذين عالجوه أفلاماً - بحيث اننا نعرف انه ربما لا يوجد موضوع عن الحرب أكثر تشويقاً وقوة من ذاك الذي يسهب في وصف نظرة الطفل البريئة اليها. إذ هنا، وبعيداً من كل منطق أيديولوجي، أو بعد منطقي، تصبح المجابهة الحقيقية، بين قسوة الحرب وشرورها - وكل حرب قاسية وشريرة طبعاً، بصرف النظر عمّن يشنها، عمن ينتصر فيها، أو عمن يكون ضحيتها - وبين براءة الطفولة، هي الموضوع. الموضوع المغري بالطبع بالنسبة الى مبدعين شاؤوا بذلك، التعبير عن موقف انساني، أخلاقي، خالد ضد الحرب، بصفتها في نهاية الأمر قتلاً ودماراً، للذّات وللآخر، لا أكثر.
> ج.ج. (جيمس غراهام) بالارد، كان مدركاً هذا الأمر، حين طفق يكتب حكاية الحرب كما عاشها، معطياً بطله، الذي بالكاد كان في ذلك الحين تجاوز سن العاشرة، اسم جيم. وجيم هذا كما هو موصوف لنا في الرواية، عاش وحيداً الجزء الأكبر من الحرب العالمية الثانية، بين كارثة بيرل هاربور، وكارثة إلقاء الأميركيين قنبلتهم النووية الثانية على ناغازاكي - بعد هيروشيما - كان جيم خلال تلك الفترة منقطعاً عن أهله، أسير الحرب التي فاجأتهم وفاجأته وهو بعيد منهم، وبالتالي أسير الجوع والمرض، اللذين كانا يفتتان الجثث المنتشرة من حوله في كل مكان وُجد فيه.
> وهكذا إذاً، يتعرف القارئ، إلى أهوال تلك الحرب، لا سيما في الشرق الأقصى من آسيا، من خلال نظرات ذلك الصبي - الطفل، فتتحول الحرب الى صور متلاحقة تشكل ما يشبه الفيلم المتسارع المتحدث عن تلك االحرب. وكل شيء يبدأ هنا عشية ضربة بيرل هاربور، حيثما يكون والدا جيم قد توجها ليشاركا في حفلة تنكرية وسط بؤس الصين، من نوع تلك الحفلات التي كان الأجانب في المناطق المغلقة لهم في شنغهاي وغيرها يعيشون فيها لاهين غير مدركين الأوضاع من حولهم. أما جيم، فإنه إذ تحلّ الضربة المفاجئة وهو بعيد من أهله في انتظار عودتهما، يجد نفسه متروكاً وسط مطار مجاور، لا تزال رابضة فيه بقايا ضربة عسكرية جوية يابانية كانت دمرته في عام 1937... بيد أن هذا الديكور السوريالي، بدلاً من أن يرعب الفتى، يفتنه، من دون أن يشعر بأي رعب إزاء منظر الجنود اليابانيين الذين احتلوا المنطقة وتصرفاتهم. انه الآن أسيرهم، مثل غيره من الأسرى، لكنه يواصل حياته ولهوه وكأن شيئاً لم يكن: لنقل بالأحرى انه يبدو وقد تأقلم تماماً مع وضعه الجديد هذا، وراح يلقي على ما حوله نظرات بريئة، ذكية، وفضولية في الآن عينه. بيد أن كل ما يشاهده جيم، يعجز عن أن يدفعه الى الشعور بأي كراهية إزاء هؤلاء الأعداء، بل انه يبدو طوال الوقت مفتوناً بطائراتهم: أما الجنود أنفسهم فإنهم بالنسبة اليه، ليسوا سوى أناس صفر شبان في معظم الأحيان، قد يكون الواحد منهم قادراً على ان يتحول بين لحظة وأخرى الى شرير، غير أن جيم لا يكاد يأبه لهذا التحول، طالما ان الاحتكاك بهم، بالنسبة اليه، ممكن ويؤدي دائماً الى الحصول على بعض الماء والغذاء الإضافيين.
> وما هذا إلا لأن جيم يدرك، بالتجربة وعلى صغر سنه انه إذ أصبح الآن «أسيراً... يتعين عليه أن يفهم ان دوره الأساس يبقى في أن يحافظ على رغبة صادقة لديه في النجاة والبقاء على قيد الحياة» كما يدرك ان شرط هذا، انما هو «البقاء وقد وضع الحاضر نصب عينيه» كما هو «بكل موضوعية وقوة».
> إذاً، فإن جيم كما تقدمه لنا الرواية، انما هو صبي يتسم بواقعية مدهشة، غير أن هذه الواقعية، لن تمنعه من أن يكون صاحب خيال لا ينضب. المهم ان جيم لاحقاً، حين ستنتهي الحرب، وحين سيجد نفسه وسط ملعب كبير وقد فك أسره أخيراً، سيشاهد في السماء من حوله لمعاناً كبيراً، سيدرك لاحقاً انه ناجم عن القنبلة النووية التي ألقيت فوق ناغازاكي: إذاً، هي حرب تنتهي، ولكن لكي يمثل التهديد باندلاع حروب جديدة ستكون، بالتأكيد، أكثر قسوة ووحشية. وإثر ذلك إذ يرصد جيم « هجوم عصابات تشان كاي تشيك المدعومة من الأميركيين، ضد الشيوعيين» يدرك، وقد وصل وعيه الى ذروته ان تلك ليست سوى بداية حرب جديدة، باردة من جهة، وأهلية في الصين من جهة ثانية.
> في حديث صحافي له قال بالارد بعد نشر روايته ان «جيم، الذي هو أنا - آخر بالنسبة إلي، ينظر الى الوجود، نظرة بطل حدث له أن قرأ كل روايات الخيال العلمي التي نشرتها لاحقاً وكل كتبي الأخرى». وبالارد المولود في عام 1930، كان هو نفسه قد أسره اليابانيون خلال الحرب، في معسكر اعتقال في لونغوا الصينية. وهو سافر بعد ذلك الى انكلترا، حيث بالتدريج أصبح واحداً من كبار كتاب الرواية فيها... وعرف حتى آخر ايامه بخصوبة كتاباته، إذ أصدر الكثير من الروايات والدراسات، لعل أشهرها، اضافة الى ما ذكرنا، «كابوس الأبعاد الأربعة» و «غابة البلور» و «العالم الملتهم»...