محمد السماك
يقول البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس ''إن مصر بالنسبة لنا ليست وطناً نعيش فيه· إنما هي وطن يعيش فينا''·
من هنا السؤال: كيف ولماذا لجأت مجموعة من أقباط مصر إلى الولايات المتحدة طلباً للمساعدة على ما يسمونه ''رفع كابوس الاضطهاد الديني الذي يتعرضون له''؟· وهل هناك اضطهاد فعلاً؟· وإذا كان هناك شيء من ذلك، فهل إن الولايات المتحدة هي التي تملك الحق والقدرة أو الصلاحية لرفع هذا الكابوس؟· وهل إن تدخّلها -إذا تمّ- يستجيب للمصالح القبطية أم لمصالحها الذاتية؟·
من الثابت أن المشكلة انطلقت من قضية بناء الكنائس والتي لا تزال تخضع إلى ضوابط حددها قانون عثماني قديم لا يزال مستمراً حتى اليوم· ولا تتلاءم هذه الضوابط مع السماحة الإسلامية· وكما يقول البابا شنودة فإننا نجد في التاريخ كثيراً من الخلفاء المسلمين وولاتهم الذين اهتموا بالمسيحيين من كل ناحية، ويضرب أمثلة على ذلك بقوله: ''كان محمد بن طغج الأخشيد يبني بنفسه الكنائس ويتولى ترميمها·· وكنيسة أبي سرجة في مصر القديمة اهتم ببنائها الخلفاء المسلمون وكنيسة أبي سيفين·· القديس مارقريوس بمصر القديمة تولى الاهتمام بها الخليفة العزيز بالله الفاطمي·· ولا أستطيع أن أذكر مقدار اهتمام الخلفاء الفاطميين بالكنائس وبنائها وترميمها في العهد الفاطمي·· إنما أترك هذا الأمر لعالمين كبيرين من علماء الإسلام هما المقريزي في كتابه القصص·· والمسعودي في كتابه مروج الذهب''·
ويقول البابا أيضاً:''كان أحمد بن طولون من المحبين للأقباط كثيراً وقد اختار مسيحياً لكي يبني له مسجد أحمد بن طولون·· واختار مسيحياً لكي يبني القناطر واختار مسيحياً يبني كثيراً من منشآته· وكان أحمد بن طولون يذهب كثيراً لزيارة دير القصير·· وكان على صلة وثيقة برهبانه هناك''·
أما الآن، فلابد من الإقرار بأن في أرض النيل مشكلة أخطر ما فيها أنها قابلة للاستغلال· لهذه المشكلة وجهان· يتمثل الوجه الأول في فوز حركة الإخوان المسلمين بعدد كبير نسبياً من المقاعد في مجلس الشعب، تحت شعار ''الإسلام هو الحل''· ويتمثل الوجه الثاني في انعقاد مؤتمر في الكونغرس الأميركي تحت شعار ''الانتصار لأقباط مصر''·
الأقباط يتساءلون بقلق: إذا كان الإسلام هو الحل، فأين موقعنا كمسيحيين في دولة، الحل فيها للإسلام؟· والإسلاميون يتساءلون: إذا كان الأقباط يلجأون إلى الكونغرس الأميركي طلباً للدعم والمساعدة من أجل الوصول إلى حل مرضٍ، فأين موقعنا كمسلمين في دولة الحل فيها للأميركان؟·
سلبيتان لا تصنعان إيجابية، قلق الأقباط وتساؤل الإسلاميين· فبالرغم من أن كلاً منهما يمسك بطرف الحقيقة، إلا أن أياً منهما لا يمسك بالحقيقة الكاملة· ولن يصل إلى تخومها، ما لم يضع نفسه في مكان الآخر، وما لم يتحسس مشاعره ومخاوفه وما لم يعش همومه وهواجسه·
فمن مقومات المواطنة أنها تتجاوز النسبة العددية· ومن مقوماتها أيضاً أنها تحترم حقوق المواطن الدينية والثقافية بما لا يتناقض مع الوحدة الوطنية أو يعرّضها للخطر، بل إن ضمانات هذه الوحدة وديمومتها لا تتوفران إلا بالاحترام العقيــــدي وبالتجـــــاوز العــــددي·
لو أن زعيم الإخوان المسلمين في مصر، يتصور أنه مسيحي قبطي، كيف يشعر؟·· كيف يفكر؟·· كيف يتصرف؟·· كيف ينظر إلى الآخر؟·· وكيف يتمنى أن ينظر الآخر إليه؟··
ولو أن البابا شنودة بصفته زعيم الأقباط في مصر يتصور أنه مسلم في مجتمع أكثريته من المسلمين، كيف يجيب هو أيضاً على هذه الأسئلة؟·
من الواضح أن هذه الثقافة غائبة أو ضعيفة ليس في مصر فقط· وإنما في معظم المجتمعات العربية الأخرى: في لبنان والأردن وسوريا والعراق والسودان· حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون في دول وطنية واحدة رضوا بها ودافعوا عن استقلالاتها معاً·
يعرف الإسلاميون والأقباط في مصر، كما يعرف المسلمون والمسيحيون في سائر الدول العربية الأخرى، أن ضرب تعايشهم هو هدف قديم ومتجدد·
فمن أواسط القرن التاسع عشر طرحت المشاريع الاستعمارية الغربية ما كان يُعرف بـ''المسألة الشرقية''، وبموجب تلك المسألة وجدت الدول المستعمرة منفذاً للتدخل في شؤون المنطقة العربية بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات المسيحية أو الأقليات غير العربية، (الأمازيغ في المغرب والأكراد في المشرق)·
ولم تطوَ صفحة المسألة الشرقية إلا بعد أن قاوم معاً المسلمون والمسيحيون· العرب والأكراد والبربر· الموجات الاستعمارية وأقاموا دولهم الوطنية المستمرة حتى اليوم بإرادتهم وبتوافقهم·
ومنذ قيام إسرائيل أطلّ من جديد مخطط شرذمة العالم العربي إلى دويلات طائفية ومذهبية وعنصرية· ذلك أن الأمن الاستراتيجي لإسرائيل لا يحققه التفوق العسكري ولا النووي الإسرائيلي· ولكن يحققه التمزق العربي بافتعال احتقانات وصراعات داخل كل دولة عربية· وكذلك بافتعال أزمات ثقة بين العالم العربي ككل ودول الجوار غير العربية (تركيا وإيران في الدرجة الأولى)·
من هنا أهمية احترام المواطنة ليس كشعار فقط وإنما كصيغة حياة واحدة بين مواطنين متعددي الانتماءات الدينية (مثل مصر ولبنان) أو العنصرية (مثل العراق والجزائر والمغرب)· والمواطنة لا تقوم على الدستور والقوانين فقط· ولكنها تقوم أيضاً وفي الدرجة الأولى على الثقافة· ثقافة احترام الاختلاف والعيش مع المختلف كما يريد بكل احترام لحقوقه، ودون أي انتقاص أو تجاوز لأي من هذه الحقوق·
وعندما تغيب هذه الثقافة، وبالتالي عندما تتعرض حقوق مواطنين إلى الانتهاك، أو على الأقل عندما يشعر مواطنون أن حقوقهم غير محترمة بالكامل، يلجأون إلى الانكفاء والتقوقع كما فعل الأكراد في شمال العراق، أو يستجيرون بقوى خارجية كما فعل بعض الأقباط (وأشدد على بعض) عندما لجأوا إلى مؤسسة ''بيت الحرية'' (وهي مؤسسة أنشأتها في الولايات المتحدة مجموعة من الصهاينة في عام 1996 للترويج لادعاءات تتهم العالم الإسلامي بانتهاك الحريات الدينية للمسيحيين) لإثارة قضيتهم في الكونغرس الأميركي· وقد تلقفت هذه المؤسسة لجوء هذه المجموعة من الأقباط الذين يحملون الجنسية الأميركية وعملت على توظيفها في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة· والمشروع كما بات معروفاً يوجه ضربات إلى التآخي الوطني في كل دولة وصولاً إلى تمزيق هذه الدول على غرار ما يجري في العراق إلى دويلات طائفية أو مذهبية وعنصرية متصارعة، وهو في الأساس مشروع صهيوني كان عنواناً لـ''استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات''·
ومن خلال هذا المشروع دخلت إسرائيل إلى الحرب في لبنان ونفخت في نيرانها على مدى عقدين من الزمن ولم تتوقف حتى الآن· وعمليات النفخ الإسرائيلية واضحة أيضاً في العراق والسودان وحتى في دول المغرب العربي·
ولكن لا التقوقع يحلّ المشكلة، ولا اللجوء إلى الخارج يخفف من وطأتها· فالتقوقع أدى إلى تعريض الدولة الوطنية إلى التفسخ على النحو الذي عانى منه لبنان سابقاً ويعاني منه العراق حالياً··
واللجوء إلى الخارج أثبت أنه نوع من أنواع ''المستجير من الرمضاء بالنار''، على النحو الذي عرفه اللبنانيون أيضاً مسلمين ومسيحيين، وبدأ المصريون يتعرفون عليه اليوم!!··
إن الحل لا يكون إلا بالوحدة الوطنية، وهذه الوحدة تتطلب أولاً وقبل كل شيء أن يكون هناك إيمان حقيقي بالوطن وولاء ثابت ومقدس له، وهي تتطلب ثانياً أن يكون هناك احترام حقيقي وثابت ومقدس أيضاً لحقوق المواطن بصرف النظر عن عرقه أو دينه، فلا يشعر كردي بأنه جزء من أقلية وسط أكثرية عربية· ولا يشعر قبطي بأنه جزء من أقلية وسط أكثرية إسلامية· وبالتالي لا يخاف الكردي أو الأمازيغي على لغته أو ثقافته من الضياع· ولا يخاف القبطي أو السرياني أو الماروني على عقيدته من التجاوز أو الانتهاك·
لقد صنع المسلمون والمسيحيون العرب معاً، حضارة يفاخرون بها العالم كله· وكان للأكراد والأمازيغ دور أساسي في هذه الحضارة· كما ساهم في صناعتها اليهود العرب في الأندلس وبغداد والقاهرة، فكانت الحضارة الإسلامية نتاج هذا التآلف الأخوي بين شعوب متعددة الانتماءات العنصرية والدينية في ظل دولة واحدة· فأين كنا·· وأين أصبحنا؟··
* نقلا عن جريدة "الاتحاد" المصرية
العربية نت
http://www.alarabiya.net/Articles/2005/12/30/19921.htm