اقتباس: بهجت كتب/كتبت
أتفق معك إذا أن في كل الثقافات التي تنتمي للحضارة المعاصرة ، سيكون هناك ما تطلق عليه المشترك الإنساني أو infrastructure أو ما يمكن أن أسميه common scence لو كان فهمي دقيقا لطرحك ، بهذا سيكون لدينا أداة بالفعل للمقايسة بين الثقافات التي تنتمي لحضارة واحدة ،و لكن ماذا لو كانت هناك ثقافة حفرية لا تنتمي لنفس الحضارة ، فلا تعتمد الحواس مصدرا للمعرفة و لكنها ترى الحواس قاصرة و خادعة و أن نصوصها المقدسة و الحدس و الوحي و الإلهام هي المصادر الحقيقية و الصحيحة للمعرفة ، ألا يعني ذلك أنها ستفتقد هذا المشترك الإنساني و أنها بالفعل ستكون إطارا مصمتا لا يمكن اختراقه ،
الزميل المحترم / بهجت
فقد هذا المشترك الإنساني الحسي يستحيل حتى في الحضارات الغيبية مثل حضارتنا.
و يجب علينا التفريق بين عدم وجود أو إكتشاف أو معرفة جزء من هذا المشترك الإنساني و بين فقده بعدها.
من الممكن أن أعيش في كهف لم أخرج منه أبدا - حينها من حقي أن أنكر وجود الشمس - لكن لو خرجت و لو مرة لأراها ساطعة - لن يمكنني إنكارها أبدا - حتى و إن أردت.
ففقد هذا المشترك الإنساني الحسي / المنطقي يمثل إنكار الواقع المرئي و إنكار المنطق - أي يمثل الفصام أو الموت ذاته. و هو وضع غير ممكن و ليس في طاقة الإنسان.
و مجرد التشدق برفض قوانين الحس و التجربة و المنطق ثم إعلانه -لا يعني بالمرة إمكتنية تطبيقه - فحتى أعتى الفوضويون - و على مستوى حياته العادية - يعيش متبعا لقوانين الطبيعة بمنتهى الوفاء.
وجود الأطر المصمتة بالفعل - ممكن - في حالة عزلتها التامة و عدم إختراقها بفكر أعلى منها (و ليس على نفس المستوى المعرفي).
و في حالة إختراقها بهذا الفكر - فهذا الإختراق يمارس قهرا على العقل لا فرار منه.
و لو ضربنا مثالا بإطار حضاري معزول تماما - يرى في ظاهرة طبيعية لا يستطيع تفسيرها (و الأمثلة بالآلاف) فعل الآلهة - ثم تخيل هذا الإطار الحضاري و قد بنى منظوماته المعرفية و الأخلاقية و غيرها - متمحورا حول تلك الآلهة التي فسر بها الظاهرة الطبيعية الغامضة.
الإختلاط الفجائي لتلك الحضارة بأخرى ترى في تلك الظاهرة فعل الشياطين مثلا أو آلهة أخرى - لا يمثل أي ضغط في صالح هذه الأساطير أو تلك - حيث أنه و في الواقع - لا يمكن لأي من الجانبين إثبات وجهة نظره. و الكلمة العليا ستكون لعوامل مختلفة - مثل القوة الحربية أو الإقتصادية أو غيرها - في تحول هذه الحضارة أو تلك لتبني أساطير الأخرى.
ثم لنفرض تعرض هذا الإطار الحضاري - لآخر (كالحضارة المعاصرة مثلا) - فما سيكون حالهم حال معرفتهم بأن هذه الظاهرة ما هي إلا نتيجة (تفاعل كيميائي - أو خداع بصر .. إلخ) و أن ما إعتبروه ظهور أو فعل الآلهة - كان مجرد أوهام - هذا و بتجربة أمام أفراد هذه الحضارة - و على المتضرر اللجوء لتجربة لكي يثبت العكس؟
في هذه الحالة من الإختراق القهري الحاد - سوف تتوالى عملية متسلسلة من الإنهيارات بدءا من المنظومة المعرفية إلى مالا نعلم من مدى - حتى يعود هذا المجتمع لحالة الإستقرار ثانية مكونا إطارا جديدا - لن يكون هو أبدا ما كان عليه. و إن كان من الممكن أن يحتفظ بالكثير من ملامحه و شكلياته.
لن يمكن لهذا الإطار الإحتفاظ بنفسه و مواجهة هذا التهديد - إلا بمحاولة العودة للعزلة التامة - لو كانت ممكنة - و هذا بأي شكل كان - فمن الممكن طرد و إقصاء كل من يسول له نفسه الحديث عن هذه التجربة الأليمة - و من الممكن قتله كذلك و دفن كل ذكرى عن هذه الهزيمة و عزل الأجيال عنها. (هل يذكرنا ذلك بشئ؟).
و عودة لإطارنا نحن الحضاري - موضوع الحديث - هل فعلا يمثل إطارا مصمتا؟ و هل لم يتم إختراقه؟
أزمة حضارتنا و هويتنا بل و وجودنا هي ناتج الإختراق / المقاومة و ليس العزلة.
العزلة كانت ستكون أفضل الحلول لإستمرار إطارنا الحضاري - لكن واقع الظروف يملي إستحالة تلك العزلة.
و لو دققنا النظر فسنجد مظاهر الإختراق و مقاومته تملأ كافة مجالات حياتنا - مما أصاب حياتنا العقلية بل و العملية بالشلل.
فنحن إعترفنا بالعلوم بالفعل - حيث لا يمكننا إنكارها - و ندرسها لأطفالنا - لكن ستجد بجانب ذلك محاولات مستميتة إرادية أو لا إرادية - لمقاومته أو دحضه و إنكاره (بدون إمتلاك أية وسيلة لذلك) أو حتى إحتوائه. و هذا في محاولات مستميتة للإلتفاف على تناقضنا الحالي.
ستجد طوفان الإعجازات العلمية - بجانب إنكار العلوم - بجانب تدريس العلوم - بجانب تكريس و إحياء كتب الخرافات الصفراء - ستجد تدريس الطب بجانب ترويج التداوي البدوي و البول... إلخ.
ستجد المطالبة بالديموقراطية في نفس الفم مع المطالبة بالشريعة - ستجد كره الآخر من نفس الأشخاص المنبهرة به و بحضارته .. إلخ.
و ستجد أخيرا موجة من إحياء موتى آلاف السنين الماضية - و موجات من سافكي دماء المخالفين - و ستجد الإنتحار و الموت و قد غدا هدفا بديلا للحياة .
لم يكن هناك تهديدا بهذا العنف لهوية حضارتنا على مر تاريخها إلا الآن - فالحروب الصليبية و غيرها لم تمثل أبدا إختراقا لثقافتنا - بل مثلت تهديدا حربيا - لم يساوي الكثير حال التساوي في ميزان القوى - أما الآن فواقع التهديد ليس حربيا بل هو تهديد في أصل هوية إطارنا الثقافي ذاته. نحن مخترقون حتى النخاع. و لا و لن نملك لصد ذلك من سبيل و لا نملك حتى خيار العزلة. و جل ما نخشاه أن يكون التلاشي هو خيارنا الأوحد.
اقتباس:هل تعتقد يا وليد أن هناك هذا المشترك الإنساني بين ثقافة تنتج الزرقاوي و ابن لادن و الزواربي الجزائري و الظواهري و أبو حمزة المصري و مقتدى الصدر و المثقاب الإسلامي و الأحزمة الناسفة الطاهرة و الذبح الأصولي للبشر على بركة الله كنماذج قياسية و رموزا و بين الثقافات الإنسانوية أو حتى البرجماتية في باقي أنحاء العالم كله ؟، طبقا لطرحك ربما لا ترى تلك الممارسات ثقافة و لكن مرضا عقليا ،وهذا ما أراه بالفعل ، نعم هناك بعض الثقافات لا تحقق الحد الأدنى من العقلانية و هي بالتالي ليست ثقافة بالمعنى الدقيق ، و الثقافة الأصولية الإسلامية تنتمي إلى ذلك النوع .
لكل ثقافة أو إطار حضاري - أسلوبه في مقاومة الإختراق - قد يختلف تماما عن الأطر الأخرى - سلميا أو عنيفا سريعا أو بطيئا.
ثقافة العنف لها جذور في التراث الإسلامي - و إحياؤه و المبالغة فيه ممكنة في أي وقت - حسبما يقتضي الأمر.
و تنامي ثقافة العنف و الدم بمجتمعاتنا - هو من ضمن مظاهر إنهيار الإطار الثقافي لحضارتنا و ليس العكس - و هو بالتأكيد مظهر أصيل لعدم الإستقرار العقلي الذي منينا به تحت وطأة هذا التناقض غير المحتمل.
و لو أمعنا النظر - فالعنف غير المبرر - ضد الآخر و ضد بعضنا البعض و ضد الذات - بجانب هذه الإحتقانات الطائفية المنذرة - كلها تحمل إنذارات الموت الجماعي و التدمير الذاتي المحقق.
لك و لضيوفك كل إحترامي ,,