دورية العراق
ميدل ايست اونلاين
بقلم: علي الصراف
كلُّ شيء أحاط بإعدام الرئيس الشهيد صدام حسين، من التوقيت الى الطريقة (التي أعدت بإشراف وحضور ومشاركة كبار المسؤولين في حكومة الاحتلال)، الى المحاكمة-المهزلة نفسها، يقول أمراً واحداً هو أن الحلف الصهيوني-المجوسي الذي يحكم العراق اليوم (عبر زبانية ومأجورين) إنما يحكم بدافعين يكاد يكون لا ثالث لهما: الأحقاد ضد كل ما كان يمثله "العراق السابق" (وليس "الرئيس السابق" وحده)، و... الغوغاء، فهؤلاء هم كل ما لدى حكومة المليشيات من "قوة" لإدارة شؤون البلد.
وللأحقاد أصولها:
فالعراق الذي كان يمثل قوة إقليمية كبرى في ظل قيادة الرئيس الشهيد، كان هو الذي يجب أن يُعدم أولاً. وقد أُعدمَ بالفعل مع إعدام الرمز الذي صنعه.
فاذا كان عراق-صدام هو عراق وحدة وطنية، على رغم المجادلات المشروعة فيها، فان عراق ما بعد صدام هو عراق تمزقات طائفية ونزاعات مناطقية وتناحرات مذهبية، غير قابلة للجدل. وإذ تجري "شرعنة" هذه التمزقات تحت ستار الفيدرالية تارة، أو "التعددية واللامركزية" تارة أخرى، فان المؤدّى الحقيقي منها هو إن العراق لن يعود موحداً، لكي لا تعودُ دولتُه تشكل قوةً ذات وزنٍ أو حضورٍ سياسي أو استراتيجي أو حتى اقتصادي في المنطقة.
وبطبيعة الحال، فان عراقاً كهذا سيظل نهبا لتدخلات دول الجوار، التي تقتطع كلُّ واحدة منها طائفةً أو مجموعةً أو مذهباً، لتدعمه ويدعهما، ويكون ممثلها في المجلس الأعلى للفوضى. وبطبيعة الحال أيضا، فان هذا المجلس سيدار من قبل قوة الاحتلال، بما انها الكلب الأكبر في الميدان، بين حشد من الجِراء التي قد تنبح على بعضها البعض، إلا أنها تعود لتتصالح تحت قبة كاتدرائية الحرب الصليبية... ("ضد الإرهاب" طبعا).
وإذا كان عراق-صدام هو عراقَ رمزٍ وطني واحد، ذي رؤية استراتيجية واحدةٍ وقادرة على توظيف الفاعلية العامة للبلد برمته لخدمتها، فان عراق ما بعد صدام هو عراق أفاقين وعملاء صغار بل وحتى مشعوذين وزعماء مليشيات يتخذُ كلٌّ منهم لنفسه مرجعيةً لا يُشترط، بسبب طبيعتها المذهبية، أن تكون موجودة في العراق أو إيران أو الولايات المتحدة أو إسرائيل أو حتى في الكويت. ما يعني انه ستكون هناك، بدلا من الاستراتيجية الوطنية الواحدة، سلسلة من "الاستراتيجيات" لنهب هذه الوزارة أو تلك، أو للسيطرة على هذا الحي أو ذاك، أو لامتلاك عائدات نفط هذه المنطقة أو تلك، بل وحتى... للتحكم بهذه المدرسة أو تلك، وهذا المستشفى أو ذاك.
واذا كان عراق-صدام هو عراق معترك البناء والتقدم والسعي المحموم لمجاراة التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي في العالم، فان عراق-المرجعيات سيقتصر دوره في هذا المجال على تقديم خدمات "المتعة" بوصفه ماخوراً طائفياً لزوار "المراقد المقدسة" من أبناء الدول الشقيقة والصديقة. وحيثما يتم قتل وتهجير العلماء وأساتذة الجامعات والخبراء والمختصين العراقيين، فسيحل محلهم "علماء" دين وذوو لحى لتقديم الفتاوي العاجلة، من أجل ألا يعود هناك في العراق أي أحد يستطيع تذكر معادلة رياضية واحدة تصلح لإنتاج أسلحة دمار شامل، ولا حتى لإصلاح خطوط الكهرباء أو إمدادات المياه.
وإذا كان عراق-صدام هو عراق تعليم ومعاهد علمية وجامعات ومركز إبداع وآداب وفنون، فان عراق ما بعد صدام سيعود ليكون عراق ما قبله: عراق تسود فيه الأمية وتتحول فيه الجامعات الى مؤسسات لانتاج الجهل والتخلف، ويقتصر الإبداع والأدب والفن الى مهاترات وتشنيع وموشحات نحيب و"حسينيات" تلطم على الحسين بن علي بن ابي طالب، وتنسى أن تلطم على ما آل اليه بلدهم من خراب.
وللغوغاء أصولها:
فإذا كان عراق-صدام هو عراق أمان واستقرار وطمأنينة، فان عراق ما بعد صدام سيكون عراق مليشيات ومجموعات مسلحة يأتمر كل منها بأوامر "قائد" (على قد الحال)، لا يعدو كونه زعيم عصابة تحميه وتوفر له دورا في "العملية السياسية".
واذا كان عراق-صدام هو عراق مؤسسةٍ إداريةٍ صارمة الضوابط، فان عراق المليشيات سيكون عراق "مؤسسة" أعمال نصب وتسويات مؤقتة يسعى كل طرف من أطرافها الى يكسب لنفسه من ورائها شيئا.
واذا كان عراق-صدام هو عراق مساواة وحقوق مدنية للمرأة، فان عراقيات "ما بعد المتعة" الطائفية سيكنّ أمام خيارين لا ثالث لهما: الدفن في المنازل في انتظار الأوامر الشرعية (لتنظيم شؤون الزواج والطلاق و...الإمتاع، كما لتنظيم شؤون الزجر والنَهر وتحريم الامتناع)، أو ارتداء الحجاب والتستر وراء العباءات، إذا شئن الإعتداء على عالم الرجال بالخروج لتنفس الهواء (والهباء).
وإذا كان عراق-صدام هو عراق مؤتمرات وندوات ونشاطات سياسية وفكرية وفنية وإبداعية، فان عراق المليشيات سيكون عراق مؤامرات وتفجيرات وتهجير وفرق موت تمارس أعمال قتل وتعذيب، إنما أكثر شمولية وأكثر علنية وأكثر بهرجة، مما عرفته جميع أنظمة التسلط والوحشية في العالم، بما فيها العراق نفسه.
والأصل في الأحقاد المجوسية إن الرئيس الشهيد كان قاد العراق الى نصر مؤزر ضد التطلعات التوسعية-الثورية الإيرانية، بقيادة آية الله الخميني. ومن المعروف ان هذا الأخير مات بعد وقت قصير من قبوله الهدنة، قائلا انه يشرب كأسها كما يشرب كأس السم.
فقُتل الرئيس الشهيد ليس انتقاما من "دكتاتوريته" وانما انتقاما لملك الفرس ذي التطلعات العنصرية المجوسية، الذي مات كمدا على هزيمته في حرب عدوانية ضد العراق، كانت بدورها انتقاما لطرده من مقر إقامته في النجف قبل أسابيع من اندلاع "الثورة الإيرانية" عام 1979.
والأصل في الأحقاد الصهيونية هو إن الرئيس الشهيد كان الزعيم العربي الأول الذي يجرؤ على إطلاق صواريخ على إسرائيل، والأول الذي شكل تهديداً استراتيجيا لوجود هذا الكيان، والأول الذي زعزع نظرية الدفاع الإسرائيلية القائمة على التفوق، ثم، لأنه كان الزعيم العربي الأول الذي أراد أن يحول العراق الى قوة نووية تستطيع تحدي التهديد النووي الإسرائيلي، من أجل سلام عادل يعيد للفلسطينيين حقوقهم الوطنية المشروعة.
زعيمٌ كهذا كان يجب أن يُقتل ليس بأي طريقة أخرى، وإنما بالطريقة ذاتها التي قُتل فيها. فالهمجية في الانتقام كانت مطلوبةً بذاتها.
كلُّ شيء في تلك الطريقة كان مصمماً بدقةٍ، ومُعداً بإتقان، ليؤدي الغرض من مسرحية الانتقام: إظهار الحقد في يوم عيد، وإظهار الغوغاء لباقي الأيام.
بقتل صدام، أراد القتلةُ أن يقولوا انهم يزمعون قتلَ العراق، وقتلوه بالفعل، لتغلُب المليشياتُ على كل ما عداها.
وبقتل صدام، أراد القتلةُ أن يقولوا انهم يريدون قتلَ أي محاولةٍ للمصالحة الوطنية، لتغلُب الأحقادُ على كل ما عداها.
وبقتل صدام، أراد القتلة ان يثبوا للعالم أجمع أي عراق سيكون عراقهم: عراق تصفياتٍ همجية وأعمال نهب ومستنقعات تخلف، تعودُ بمجتمعٍ كان مزدهراً يوماً، ليس الى مجتمع "ما قبل" نشوء الدولة فحسب، بل الى مجتمع "ما قبل" نشوء المجتمع أصلاً.
وهنا، في هذا المنقلب من التاريخ، سيأتي دور حلف الصهاينة والمجوس ليقرر كيف سيتم تقاسم المصالح في هذا المستنقع.
من الواضح أن عراقَ المستنقع لن يُتيح لأي قوةٍ دولية أن تتحكم فيه بمفردها.
التمزيق الطائفي والمناطقي وحده، يقتضي وجود قوى "ضبطٍ وربطٍ" متعددة. فتلك هي طبيعة الأشياء في كل مكانٍ تتناحرُ فيه أقليات.
الولايات المتحدة قد تكون أخطأت بالتعويل على "الأغلبية" الحسابية للرعاع والفلاحين الذين يمثلون الهوامش والأطراف غير المدينية في المجتمع، إلا انها، بعد كل الدمار والخراب والموت الذي ألحقته ببنية الدولة العراقية وبمؤسستها المدنية وبالأطياف الاجتماعية لهذه المؤسسة، أدركت انها لن تعود لتكسب "قلوب وعقول" أحد فيها. وبترخيصها قتل الرئيس الشهيد، بتلك الطريقة بالذات، إنما قالت انها اختارت المضي في طريق اللاعودة حيال "الأقلية" الحَضَرية التي كانت تشكل عماد المؤسسة المدنية السابقة للدولة العراقية.
وهكذا، فبما ان الهوامش والأطراف هم "حُسينيات سياسية" ومليشيات، وبما ان لإيران نفوذاً لا يُقاوم على هذه الحُسينيات والمليشيات، فإن تقاسم المصالح معها، حتى وإن لم يكن مثالياً، فانه لا بد منه.
وكان تسليم الرئيس الشهيد الى غوغاء هذه المليشيات بمثابة عربون اعتراف بدور ليس الجِراء وحدهم، وانما بدور ضابطهم ورابطهم الإقليمي أيضاً. وتفاصيل جريمة القتل قد تكون نوقشت خلال زيارة عبد العزيز الحكيم (صاحب مليشيات "بدر" التابعة للحرس الثوري الإيراني) الى واشنطن، قبل التصديق على حكم الإعدام بأيام، إلا ان نقاش الحصص والتسويات وزواج المتعة بين الاحتلال والمليشيات كان هو الصفقة التي تطلبت ذلك العربون.
ليس مهماً كيف سيمكن فض النزاع حول المشروع النووي الإيراني، الا أن الحرب ضد إيران لن تقوم بسبب هذا المشروع. فتقاسم الحصص في العراق، والتخلص من "عدو مشترك"، سيوفر هامشاً واسعاً للأريحيات السياسية والاستراتيجية بين الطرفين. ومع اندفاع إسرائيل لانتهاز الفرص لـ"تحقيق السلام" (تحاشيا لعواقب الهزيمة الأمريكية المحتملة في العراق)، فان التطلعات الإسرائيلية ستذهب الى أن تجعل من عراق ما بعد صدام "حديقة خلفية" لمصالح ناشئة تمتد من شمال العراق الى وسطه، وذلك في مقابل "نفوذ إيراني" يمتد من الوسط الى الجنوب. أما غرب العراق (السني) فسيُترك ليكون "مجالا حيويا" لـ"المرجعيات" السعودية. إنما، تلك "المرجعيات" نفسها التي لم تعرب عن استعدادها لدعم "الأشقاء" السنة إلا بعد انقضاء المذبحة ضد بلدهم، وإلا "بعد خراب البصرة" (التي دمروها في الأصل بدعمهم المشهود للحربين (1991 و2003) ضد العراق.
صدام لم يمت، فقد قضيَ بطلاً وشهيداً،...
ولكن حلف الصهاينة والمجوس أراد بإعدامه، إعدام العراق نفسه؛ إعدام بقائه كـ"دولة-أمة"، وإعدامه ككيان إجتماعي وسياسي موحد.
فهل هذا ما سيكتملُ فصولاً في قادم الأيام؟
أي مستنقع للموت والانحطاط والتخلف سيكون عراق المليشيات؟
ماذا ستكون استراتيجية المقاومة لمواجهة التمزيق والقسمة حتى بين صفوفها هي نفسها؟
تلك أسئلةٌ ما تزالُ مفتوحةً على إجاباتٍ عدة، ولكنها تتطلب، من دون أدنى شك، وعياً شديدَ الالتزام بالطريق الذي تدلُّ عليه بوصلةُ الوطنيةِ الجامعة، والأخلاقيات الرفيعة حيال المدنيين، والتمسك بالعروة الوثقى لمقاومة العدو المشترك، لا أحد سواه.
حتى إذا ما هرب الكلب الكبير، فان جِراءه ستهرب معه.
أما كيف سيكون عراق ما بعد المقاومة، فتلك مسألةٌ يمكن تركها لقواها (صغرت أم كبرت) ولوقتها (قريباً كان أم بعيداً).
ولكن، إذا كان من كلمةٍ سواءٍ بين أطراف هذه المقاومة فإنها: العدو المشترك، المشترك، المشترك، ولا أحد سواه.
بهذه الاستراتيجية، البسيطة، والنبيلة، والمباشرة يمكن للنصر أن يتحقق. وسيكون نصراً للإيمان والوطنية والشرف ولا كمثله نصر.
http://www.iraqpatrol.com/php/index.php?sh...%E1%D5%D1%C7%DD