{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
موت السندباد 1936....مسرحية ذات فصل واحد ..دراسة في عمل ابداعي لميشيل عفلق:
بسام الخوري غير متصل
Super Moderator
******

المشاركات: 22,090
الانضمام: Feb 2004
مشاركة: #1
موت السندباد 1936....مسرحية ذات فصل واحد ..دراسة في عمل ابداعي لميشيل عفلق:
السندباد، من الموت الي البعث : دراسة في عمل ابداعي لميشيل عفلق:
2005/04/25

مسرحية تكتسب بعدا تبشيريا وتمهيديا لحركة البعث وتنبؤا لما ستلاقيه من صعاب في مواجهة الفكر التقليدي
ثورية السندباد هي دعوته لاستنفار الخصال الحميدة في الانسان.. وفلسفته تتلخص بالعطاء فلا تجمع يداه الا لتعطي
د. رزان ميشيل عفلق
[SIZE=5]الكثيرون تكلموا عن ميشيل عفلق الأديب الشاب الذي لم يكن قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره حتي بدأ يكتب مقالات رأي ونقدا وقصصا واشعارا ومسرحيات، كلها كانت تبشر بولادة أديب ضليع في الأدب العربي الحديث، يمتلك كنوزا ثمينة من المعرفة والثقافة الفلسفية العالمية، ويبتكر بجرأة أسلوبا أدبيا يقاطع كليا النزعة والأسلوب الرومانتيكي السائد في تلك السنوات. فكتابة الأستاذ الأدبية تبدو كأنها صرخة انسانية أو دعوة انسانية، محورها الأول والأخير الانسان، تنجلي كل معانيها اذا ارجعت الي محيطها الاجتماعي والفكري والسياسي في تلك الحقبة الزمنية، وهي تعتبر مرحلة فكرية مميزة وغنية للأستاذ تساعد علي القاء الضوء علي اصول وجذور بعض أفكاره وطروحاته وكيفية تطورها فيما بعد، أكثر من كونها غايته النهائية.
وتتلخص في كونها دعوة الي الانقلاب علي الذات أولا، ثم علي المجتمع والتقاليد البالية وكل مظاهر الظلم. وقد كانت هذه الدعوة نقطة البداية التي وجدت سبيلها القومي في النضال الذي غذ ّاها حتي اكتملت وأصبحت فلسفة قومية شاملة.
فالقصة والمسرحية لدي ميشيل عفلق لم تعطيا الهيكل العام التقليدي، أي مجموعة أحداث تتجه الي نقطة توتر عليا ثم تنحدر نحو الختام، بل انهما تتلخصان بـ حدث ذي ابعاد نفسية ومعنوية كبيرة ومركزة. وهما خاليتان من التحسر علي الحياة وظلمها، ومن التباكي والمنطق الكارثي، والتعبير عن ظلم القدر، بل بالعكس تنبضان بروح حب المعرفة والتمرد والشك الايجابي البناء. ووفق دراسة قيمة للدكتور شاكر مصطفي (الذي من أجمل ما قاله في الاستاذ: ميشيل عفلق هو السمفونية التي لم تتم في الأدب العربي الحديث )، فأن هذه الظاهرة ترتبط في الحقيقة ببدء انتقال المجتمع في سورية اولي الثلاثينات (من مرحلة الخضوع والخشوع والانفعال والسلبية أمام الحضارة الغربية، الي مرحلة الفكرة والتمرد، ومن السلبية المدافعة الي الايجابية والهجوم)، وفي ذلك بوادر الانقلاب والثورة وبداية عهد البطولة الذي يبشر بفجر جديد. فيظهر نتاج الاستاذ الأدبي وكأنه مسير وفق منطق مستمر في الصعود والتركيز حول أزمة انسانية الي أن يصل وفق تصميم مطرد العمق الي مرحلة اشعاع قصوي ينبثق منها الموقف الانساني.
والأستاذ فيما كتب كان سبّاقا لزمنه، اذ حلق فوق كل التيارات الفكرية والثقافية السائدة في سورية في الثلاثينات وخرج بنتاج ادبي رفيع يشرق منه الموقف الانساني البطولي ذو الدلالات العميقة في قصصه ومقطوعاته الأدبية.
موت السندباد هي المسرحية الوحيدة التي كتبها الأستاذ ميشيل عفلق وذلك سنة 1936. ولا أكون مبالغة اذا قلت أنها ذروة في الابداع الفني ونموذج فريد للأدب الرفيع الصافي أسلوبا ومحتوي. ففي بضع صفحات قليلات، (فصل واحد فقط)، يتركز النتاج الأدبي الرائع الذي يمتلك بتحكم تام أعمق وأدق مفاصل ومفاتيح اللغة العربية ؛ وما يفوق ذلك روعة هو الانسيابية والسهولة الظاهرية التي تقود ذلك وكان منطق الحس الفني هو وحده الذي يصوغ الجمل لا بل المسرحية بكاملها، مانحا اياها وحدة الفن الروحي والتوازن الأدبي. فتجلس الكلمة المناسبة في المكان المناسب ولا تستطيع ايجاد أفضل منها دقة وتعبيرا.
هذا علاوة علي المضمون. فشخصية السندباد لوحدها وافرة الغني وذات مستويات متعددة. فهذا الشخص المعمّر الذي يعود من آخر سفراته الطويلة الي ديار سكنه في أحد احياء بغداد القديمة، محطم البنية، متهرئ الهندام، خائبا، مفلسا، خاسرا كل ثروته، فاقدا أهله وبيته، هو في الحقيقة بطل، البطل الذي يتطلع دوما اليه الأستاذ عفلق، البطل الذي لا يحب الحياة فحسب بل يحترمها، لا يشتم القدر بل يحاربه، لا يخاف من الفشل بل يري فيه سرّ بطولته، ويرضي بالحياة المفجعة لا مقطّبا جبينه، بل مرتلا نشيد الظفر . وهو في الحقيقة المنتصر والفائز الوحيد بين أشخاص المسرحية، اذ سعي جاهدا وراء نفسه وسر وجوده، فوجد ذاته بعد عناء ومشقة وتضحيات جسام، ولاقي الانسان بداخله، ففاز با لحقيقة الوهاجة التي تبهر العيون ، أو، لنقلها واضحة فاز بثروة الحياة .
وقد ربط الأستاذ هذا الانسان بظروف الساحة الراهنة، فسرّب من خلاله رسالة انسانية حضارية مهمة سنحاول ايضاح بعض مضامينها.
السندباد هو بطل اسفار الأستاذ عفلق (نجده قبل عامين سنة 1934 في السندباد وعشيقته ) وتلهفه للسفر والحركة واقتحام المجهول ليعبر عن تشوق الأستاذ لمعرفة الجديد ولبلوغ افاق وسماوات جديدة، ورغبة في الاجابة علي كل الشكوك التي تراود ذهنه. وهو شخصية رمزية تحمل عدة معان وابعاد، واحدة تكمل الأخري بحيث أنها مجموعة تكون شخصية غنية وذات أعماق مهمة.
فهو يفصح أولا، عبر حديثه مع من لاقاه من سكان الحي، عن بعد انساني رفيع وعن ارادة حقيقية لاطلاق الطاقات والامكانيات الكامنة في النفوس.
انه يحمل في طيات روحه كنوزا من الشيم والمبادئ، ويتسلح بتفاؤل جبّار، وهو غني بالعطاء والتزهد والتفاني. لقد تزهد عن كل المتع الدنيوية، لا يملك مادة ولا تملكه المادة. قطع سلاسل الملذات والراحة التي كانت ستقيده وتشد به الي الأرض، مطلقا بذلك سراح كيانه وروحه لكي تستطيع الطيران وتحلق في سماوات سامية توصله الي آفاق الابداع. بدد كل ما جمع، بيع منزله، فقد عائلته، لكن، نذر نفسه وحياته في سبيل فكرة أو البحث عن حقيقة ضياؤها باهر يعمي العيون. تفاني وعاش أقسي المخاطر، نازلا الي حيث لا يجرؤ أحد علي النزول، صاعدا الي حيث لا تستطيع الطاقة البشرية الصعود، مداعبا الموت في كل لحظة، متفانيا من أجل قضية، باحثا عن سر ذاته وعن سر الوجود.
فلسفته كلها تتلخص بالعطاء، لا تجمع يداه الا لتعطي، يأخذ من الحياة ما يستطيع ليفيض بعد ذلك بالعطاء الانساني السخي، يعطي الحياة اضعاف ما بذلته اياه، وكلما زاد عطاء زاد غناه وكبرت ثروته.
واذا ربطنا ما ذكر أعلاه بمقالة الأرض والسماء سنة 1944، فان ما يطلق عليه الأستاذ بالأرض وهي متطلبات الجسم ولذات الحياة اليومية ومشاغلها يمثل ما تخلي عنه السندباد وما نسخه من حياته، ساعيا الي السماء التي هي مطالب العقل والروح، ولذات الحياة العليا وواجباتها ، حتي لو كان ذلك عبر طريق وعرة طويلة، شرطها الأساسي بل قانونها هو التحرر من الضرورات الحيوانية والانصراف الي القيام بالوظيفة الانسانية ، متحليا ومتسلحا لذلك بتفاؤل لا يزعزعه شيء، مقرون بالايمان وبثقة عميقة بكل من النفس والحقيقة التي ينشدها في آن واحد.

البحث عن لفظة تعيد الرجاء

تري ماذ ينتظرك في نهاية المطاف يا سندباد؟... لقد أجاب السندباد علي هذا السؤال بنفسه لمن سأله من الشباب المتشوقين من حوله: فهو سار في جوانب الأرض، من شرقها الي غربها، من جنوبها الي شمالها، باحثا عن لفظة تعيد الرجاء الي قلوب الناس اليائسين من ظلم وفساد المجتمع وتقاليده البالية، مفتشا عن عالم جديد مصنوع من الحرية والجمال ، ناشدا في الأرض كلمة سر جديدة تفوق الأسرار، متعطشا الي حقيقة وضاءة تبهر الأبصار.
وهنا يكمن صميم وقلب الرسالة التي حظي بها السندباد، يحملها بالدرجة الاولي الي كل الذين تبرق في عيونهم أشعة حب المعرفة والي المتشوقين لالتماس وتحسس آفاق جديدة. هنالك امانة يريد السندباد أن يسلمها الي من أطلق الأستاذ ميشيل عفلق عليهم بـ الشباب ، قبل أن تحل ساعة منيته، الا وهي الكلمة الكبري، أو الحقيقة التي تعيد الي الناس الرجاء والسعادة، التي لن تتحقق الا بتحقق شكل جديد من أشكال المجتمع لا تسيطر عليه التقاليد والنظم البالية، أساسه مبادئ وقيم مختلفة، و حقيقة جديدة ساطعة تناقض التقاليد والنظم السائرة والسائدة منذ زمن بعيد.
ولكن سبيل هذا العالم الجديد المصنوع من الحرية والجمال الذي يوفر السعادة لأبنائه يمر حتما بانقلاب علي العدو الباطني يسبق الانقلاب علي العدو الظاهري أي أن يحارب المرء في نفسه اليأس والفتور وحب الراحة ، وان يكتشف أولا حقيقة نفسه وذاته، ويلقي الانسان الذي يكمن في داخله فينميه ويطوره لكي يتاح لكل فرد اطلاق مواهبه وقواه وأن يتعلم حب نفسه حتي يستطيع حب الآخرين.
ان الرحلة المقدسة لاكتشاف حقيقة الذات لا تبلغ الا بعد المرور بصعوبات وعناء كبيرين، وبعد اجتياز مشقات وصعاب جمّة، ولكن عند بلوغ المرء الغاية الحميدة وفوزه بثروته الذاتية، تتلامس حينئذ يداه، ويسمع صدي صوته، وينظر لون عينيه، فيحقق الانسان انسانيته.
اولي النتائج المباشرة الملموسة لمثل هذا الانقلاب علي الذات الذي يبشر بخلق الانسان الجديد هو أن يفيض ليشمل انقلابا آخر في أسس وتكوين المجتمع نفسه، وبالتالي تغيير المجتمع الفاسد البالي والقضاء عليه. ومن هنا يظهر البعد الثاني لشخصية السندباد، الا وهو البعد الثوري النضالي.
نتوقف قليلا لنلاحظ أن الأستاذ عفلق قد جعل من سكان الحي البغدادي القديم الذي يعود اليه السندباد بعد رحلته ومن مستقبليه فئتين ولنقل حزبين متباينين: من جهة الشباب والصبية ومن الأخري الشيوخ.. هذا التقسيم لا يتضمن فقط التسمية، بل قد سيّر الأستاذ حديث وأقوال ومنطق كل منهما وتعاملهما مع السندباد باتجاهات متضاربة.
ومن الواضح أن الأستاذ عفلق، من خلال تمييز أهل الحي الذين هم في الحقيقة يرمزون الي المجتمع وفصائله، انما قام بعملية تفحص ونقد وتحليل لهذا المجتمع.
فقد تميّز الشباب بتشوقهم وتلهفهم وتعطشهم الممزوج بنوع من الاحترام والخشية للاطلاع علي الآفاق البراقة والبعيدة التي أدركها السندباد، وباندفاعهم العفوي لطرح سلسلة التساؤلات والشكوك التي تراودهم وحاجتهم الملموسة الواضحة الي الاعتقاد بحقيقة مثلي تعيد اليهم الرجاء والايمان، والي اكتشاف كلمة السر .
والأستاذ عفلق نقل الي هؤلاء من خلال شخص السندباد الرمز كل ما يعقده عليهم من امال ومدي المسؤولية المقدسة الملقاة علي عاتقهم حيث أنهم حملة شعلة المجتمع الجديد، بل الجيل العربي الجديد.
واذا ما عاد السندباد الي حي سكنه بعدما ذاق العذاب، متحملا وحده عبء ومسؤولية مواجهة المجتمع القائم والشيوخ المتنفذين به، دون تخوف من العواقب، متفانيا مضحيا حتي بحياته من أجل الفكرة والقضية والمبدأ، فان الوصية المقدسة التي هو حاملها انما هي موجهة لهؤلاء الشباب وفي سبيلهم، حيث انهم يرمزون ويملكون العفوية والعواطف الصادقة وحب المعرفة والوصول الي الحقيقة، الي ثروة الحياة .
أما الصبية الذين ما كادوا يرون السندباد الا ورشقوه بالحصي واستهزؤوا به وبفلسفته دون أن يفكروا بنتائج ذلك عليه وعلي أنفسهم، وتهوّروا واندفعوا جريا في التيار الذي اراد تسييرهم به الشيوخ من حولهم، فهم يرمزون الي فئة الطائشين المتهورين الذين يتسرعون ويقومون بأعمال طائشة دون أخذ الوقت للتمعن في مدي صحتها. ويلاحظ موقف الشباب منهم، اذ هم يردّونهم عن تعدياتهم العنيفة، ويحدّون من تصرفاتهم اللامسؤولة، لكن دون استخدام العنف أو الردع بكراهية وشراسة، أي أنهم يحاولون ايقافهم مع الاحتفاظ بامكانية ارشادهم الي التفكير الصحيح.
والفئة الثانية التي تكون المجتمع الرمزي الذي لاقي السندباد مكوّن من الشيوخ وقد استعمل الأستاذ هذه اللفظة لا للدلالة علي التقدم بالعمر أو الكهولة، انما اراد بها من هم يمثلون، دون النظر الي اعمارهم، الجيل القديم وذوي النفوس الضعيفة... الذين يسيطرون علي تنشئة الأجيال ويزيفون رسالة الشباب ورسالة الثقافة، ويحاولون أن يجعلوا من الشباب شيوخا وهم ميعة الصبا . وهم يظهرون كنقيض للشباب، حيث أنهم يسيّرون الحسابات الدنيئة والمصالح والتقاليد البالية الموروثة من جيل لآخر، فهم فقدوا براءة الشباب وعنفوانه وعطاءه اللامحدود وتفانيه للمبادئ وهم يتسلحون بسلاح أكثر خطورة من الأسلحة التقليدية، اسماه ميشيل عفلق في مقالته عهد البطولة بسلاح البرودة والابتسامة الساخرة. وبهذين السلاحين قابلوا السندباد ونداءه وحماسه لدي عودته الي دياره، اذ اعتبروه طفلا يلعب برهة من الزمان ويحاول تناول القمر بأيديه القصيرة، وان الواقع كفيل بأرجاعه الي العقل . هؤلاء في الواقع جبناء، لا يخافون من الحقيقة المضيئة فحسب، بل يخشون أيضا من يعتنقها ويحملها. وهم يحاربون الفكرة وحملتها.

عودة السندباد

لذا عند عودة السندباد من رحلته وراء البحار، وتبشيره أهل الحي بوجود حقيقة ساطعة تعمي الابصار من شدة بريقها، استهزأ الشيوخ به وأرادوا أن يجعلوا من خيبته وخرابه وحتي من ساعة موته عبرة لمن يفكر مثله بملاحقة أطياف المستحيل، ولمن يحاول العبث والتصدي للتقليد والنظام القائمين، ولمن يجرؤ علي الخروج عمّا هو مرسوم ومسبق التخطيط. فحاولوا القضاء علي كيان السندباد من أصله وجذوره، وقرّروا تحطيم مصداقيته ووجوده بالصميم. وأرادوا جرّه لأن يبوح ويعلن بنفسه خيبة وفشل الأفكار التي رفعها.
لذا طلب أحدهم منه التخلي عن حياته وماضيه أي عن كيانه وذاته، وعن الأفكار التي يحملها، والمعتقدات التي يدافع عنها، وأرادوا منه حتي التخلي ونكران الحقيقة المشرقة التي دأب لبلوغها والتي أفني حياته وعمره بحثا عنها، وأمروه بأن ينصح الشباب المتعطشين لسماع خلاصة سفراته الاّ يحترموا الاّ ما هو ثابت مضمون أي التقاليد البالية والنظم الرجعية وكل ما هو محسوب، مدروس، والمصالح المادية والمراكز.... التي، بنظر الشيوخ، برهنت علي جدارتها فقط لأنها استمرت طوال السنوات الماضية والتي لا تزال مستمرة.
ذلك أن الحقيقة التي يبشر بها السندباد تزعجهم لأنها تناقض وتهدد النظام الرجعي المستتب من أساسه وتهدف الي انتزاعه من جذوره كالنبتة الفاسدة؛ وهي وفق تعبيرهم مثل أطياف المستحيل لا يمكن أن تكون لأنها لا يجب أن تكون، ولأن مجتمعهم البالي لا يسمح لها بأن تعيش وتزدهر وتبقي.
فمثلها مثل الضياء الباهر الذي يطفئ شمعتهم العتيقة، واللهيب العارم الذي يلتهم شعلتهم المتسكئة.
لذا هم يتمسكون بالفكر التقليدي، يقطعون به طريق الحرية والتحرر كما قطعوها علي السندباد، ويفرضون القيود منها الفكرية والاجتماعية والسياسية وقيود في التقاليد وحتي قيود من القدر ، لطمس الانسان وربطه بسلاسل ثقيلة الي الأرض، ومنعه من التحليق في السماء، وهنا تكمن المأساة والجريمة. لذا تبدو كلمة السر وكأنها محرّمة في مجتمعهم، ويفضح أحدهم ذلك فيقول: صه! لا تفه بكلمة، لا تقل ما حرّم الله أن يعلم ... ومن يخالف التعليمات ويدخل في أعماق هذا العالم الممنوع، يسقط عليه العقاب كالصاعقة.
لذا عندما هب السندباد بالبوح بكلمة السر المحرّمة، سقط ميتا علي الأرض. وهذا ما يحل بمن يتجرأ ويتحدي العادات القائمة، وهذه نهاية من يريد انقاذ روح الشباب التي تنبض فيه من عالم يسيطر عليه الشيوخ...
يبقي تفسير خروج الأفعي السوداء من فم السندباد بعد موته مطروحا. وقد يجوز أن ترمز الي الصمت المفروض نتيجة سيطرة وهيمنة الشيوخ، ومدي سلطتهم، وعقابهم، اذ أنها هي التي أتت بالضربة القاضية علي السندباد الذي تجرأ وفكر بالتفوه بالحقيقة التي تضيء وتبهر العيون. فقتلته، فأخذ بسرّه معه. وفي موته أحياء للشيوخ ولعالمهم، اذ زال الخطر الذي هددهم. وهذه هي النهاية الروائية الأدبية للسندباد.
كخلاصة لكل ما سبق، ان ثورية السندباد تتمثل في أن دعوته هي استنفار لكل خصال الشباب الحميدة في الانسان، أي أعلي درجة وأكبر طاقة من الفضائل الحية المتقدة (التي) لا تترك لها حيويتها مجالا أن تنظر الي الوراء وتراقب وتشاهد بدل أن تندفع وتعمل، بدل أن تقرر، بدل أن تخلق وتبدع .
حينئذ، يكون المرء حاضرا ومؤهلا لأن يري الحقيقة الوهاجة ولأن يسمع ويستوعب كلمة السر، فيفوز بنفسه.
يظهر جليا من الدراسة والتحليل اعلاه أن مسرحية موت السندباد التي كتبت سنة 1936، وان صنفت في جميع المراجع مع المقالات الأدبية الاولي، وبالاضافة لكونها منعطفا في تاريخ القصة والرواية الأدبية العربية وابتكارا جريئا وعميقا في أسلوب الكتابة والقص، انما هي بالدرجة الاولي قطعة هادفة تنبض فيها الروح الثورية والانقلابية بكل قوة وحيوية، مكونة محور الربط فيها وهيكلها الأساسي، والنبرة الثابتة الممتدة من أول كلمة فيها الي آخرها. كذلك تربطها علاقة وثيقة بالكتابات السياسية الاولي، كما وردت في الباب الأول من في سبيل البعث، الكتابات السياسية الكاملة ، حيث تظهر فيها براعم وبذور الخطوط الأولية الرمزية لبعض الطروحات الأساسية الفكرية والانسانية التي وضحت وفصلت في ما بعد في الكتابات السياسية الاولي، وأعطيت مضمونها النضالي والسياسي. هذا الترابط يلقي أضواء جديدة علي كيفية فهم كل من ميشيل عفلق الأديب وميشيل عفلق رجل الفكر السياسي والقومي، ويضيف صبغة انسانية جديدة علي مبادئ حركة البعث العربي .
ففي بداية الأربعينات، اولي الدعوات والمعارك التي سعي الأستاذ الي تحقيقها كانت النقد الذاتي البناء لتحديد كل الرواسب السلبية المتراكمة داخل كل عربي اثر سنين الاستعمار والاحتلال الأجنبي وكل ما زرعه المجتمع الفاسد من ظواهر التردي، والقيام بانقلاب وثورة حقيقية علي الذات من أجل محاربة هذا العدو الباطني . واعتبر الأستاذ ذلك أول مرحلة من مراحل العمل البطولي الذي خصص أنه لا يكون دائما في المهاجمة، بل قد يكون كذلك في الصبر، الثبات، وأن يحارب المرء في نفسه اليأس . وهنا تلتقي دعوة الأستاذ اولي سنوات تأسيس الحزب مع دعوة السندباد للشباب من حوله بأن يطوفوا الأرض ويذوقوا المصاعب لو تطلب الأمر في سبيل أن يجد الانسان نفسه ويحقق انسانيته. وقد ربط الأستاذ ذلك بطلب الاستقلال والحرية لأنهما الوسيلة لاطلاق المواهب العالية والقوي المبدعة لكي تتحقق علي أرض الوطن غاية كل انسان، الا وهي الانسانية الكاملة .
دعوته هذه كانت موجهة الي كل الجماهير العربية، ولكنه أطلق علي من حقق أو يحقق هذه الثورة الذاتية بـ الشباب وقد وضّح مميزات وصفات هذه الشبيبة المثقفة المتحفزة لفهم الحقيقة واعتناقها والتضحية المطلقة في سبيلها في مقالتي الايمان و خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب ، ووصفهم بأنهم أبعد ما يمكن عن السياسة ورخصها، وربط ذلك بالنضال الحقيقي المقدس، اذ أنهم مثلوا التفاني والتجرد وانكار الذات والتواضع أمام الفكرة وأمام صوت الحق وآلام الشعب . كما أن اصطلاح الشباب هو نفسه المستعمل في مسرحية موت السندباد الذي هو أفضل مثال لهؤلاء الشباب . كذلك فان تعبير الشيوخ ومضمونه كما ورد في المسرحية سنة 1936 يستعمله الأستاذ ميشيل عفلق سنة 1955 في مقالة خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب للدلالة علي النفعيين والجبناء والمتخاذلين.
مع ظهور حركة البعث العربي ، تتوضح معالم الدعوة التي تفاني السندباد من أجلها، فتكتسب محتوي أعمق وادق، وتقرن بالوطن وبالامة بصورة واضحة، وتأخذ الطابع السياسي بشكل كامل. فبعد ان صاغ السندباد هذه الدعوة بأسلوبه الادبي الفني، يصوغها الأستاذ ميشيل عفلق بصورتها السياسية النضالية النهائية. فقد دعا الاستاذ ضمن مبادئ حزب البعث الي ضرورة الانقلاب علي المجتمع المتخلف وأجري مقارنة مع المجتمعات السليمة والراقية التي علي العكس تجعل من مهمة التثقيف ان يحافظ الشباب علي شباب نفوسهم ونضارتها لانهم اداة انقاذ الأمة، حتي بعد ان يجتازوا عمر الشباب ، وتبيّن ان للشيوخ القدرة علي التجدد والابداع المستمر ضمن مجتمعات حية قادرة علي الخلق والاستمرار والتكيف مع تطورات الحياة البشرية. ووضع الأسس الاجتماعية والسياسية للجيل الجديد، وربط النضال الحقيقي المقدس بالأرض والوطن وبمصير الأمة.
كما الحال مع السندباد، اهتدي ميشيل عفلق الي كلمة سر آمن بها وعرّفها في مقالة الايمان (1943) بأنها التي تبقي علي صحة طريق (النضال) واستقامته وأمانته، وأن ينقلها كل فرد لآخر، وكل جيل لآخر. وكلمة السر هذه ليست نظرية يبرهن عليها وليست دستورا رياضيا، ولكنها هي الميزة التي تميز الانسان في كل عصر وفي كل قطر .. هي عفويته التي تميز بين الصدق والكذب. (هي) الروح العفوية التي تغذيها التجارب ويصقلها الفكر والبحث، ولكن لا توجدها التجارب ولا العلم ولا الفكر. هذا هو المقياس وكلمة السر .
وتلتقي طروحات الأستاذ الاولي مع دعوة السندباد في الرفض أن تمرّ أجيال بكاملها تحرم من امكانية تحقيق ذاتها، واستثمار كنوز الخير والمحبة والحماسة التي تخزنها. وطوّر الأستاذ هذا المفهوم ووضح أهمية توفير المستلزمات الدنيوية والغذاء ليتمكن المرء من الانصراف الي وظيفته الانسانية. وهذا ما أسماه الأستاذ بالاشتراكية.
وبتحقيق الاشتراكية، تمهد وتهيئ البيئة السليمة والقاعدة الصحيحة لخلق مجتمع صالح، أي الجيل العربي الجديد، الذي يعتبر ويفكر، والمؤهل لتسلم كلمة السر الكبري، تلك التي تمكّن الشيوخ من طمسها ومنع السندباد من قولها في المسرحية الروائية فكانت تلك النهاية المتشائمة، والتي أتي الأستاذ عفلق بعد سنوات قليلة ليبوح بها ويضع تعريفها وأسسها، ويمشي بها، فنمت وترعرعت بالنضال، وازدهرت واثمرت تحت لواء حزب البعث العربي ... فما عجز عنه الأدب والفن، قضي قبل أن يري النور، ثمّ عاش وتفتح وتبلور بفعل العمل النضالي الحقيقي.
وأيّ تعريف أجمل من ذاك الذي أعطاه اياها الأستاذ، وهو أن يربط الانسان نفسه بنهضة أمته وثورتها ؟. وهكذا يحقق المرء سماءه وهو موجود علي الأرض، أو ان الأرض لديه تستحيل سماء .
وكان الأستاذ أول من طبّق الأسس المطروحة، فربط نفسه ومصيره وحريته بنهضة أمته، واعتزل الكتابة كفنّ أدبي اذ اعتبر أنها جزء بسيط من النضال المطلوب من الانسان العربي، وانها لا تكفي اذا لم تقترن بحركة نضال حقيقية من أجل بعث الأمة العربية.
هذه المسرحية تكتسب بعدا تبشيريا، وتمهيديا لحركة البعث، وتنبؤا لما سيلاقيه مناضلوها من صعاب في مواجهة الفكر التقليدي.
كتب الأستاذ ميشيل عفلق هذه المسرحية كعمل أدبي، لكنها في الواقع قراءة مستقبلية في مشواره الطويل، الذي بدأ علي مقاعد جامعة السوربون في باريس، واستمر باتجاه آخر علي كراسي مقهي الرشيد في دمشق، مربّيا أجيالا من المناضلين الذين كانوا السند القوي في دفع مسيرته الثورية من خلال تأسيسه لحزب البعث العربي الاشتراكي...
فعندما كتب الأستاذ عفلق سنة 1936 موت السندباد ، انما وضع نفسه علي الورق، وخلق السندباد صورة لذاته، يسافر بدلا عنه، يكتشف وينظر لما يراه، يقول ما يفكر به، ويؤمن بما يعتنقه.
لكن الرواية سرعان ما أظهرت عجزها للأستاذ، وتبيّن له أن أعذب الكلام وأرقاه غير قادر لوحده أن يغير الواقع الاجتماعي والسياسي الرديء الذي يعاني منه شعبه وأمته. فشهد الأستاذ عاجزا موت مخلوقه السندباد، وقد قتلته أفعي الصمت المفروض علي جيل كامل وعلي أمة برمتها. ومات جزء من عفلق الأديب معه، فثار عفلق أستاذ الفكر السياسي القومي وتمرّد، وكان أول من طبق دعوة السندباد ومشي بها، فآمن بكلمة السر الذي كان يمتلكها، وربط مصيره بمصير أمته وبنهضتها، ووضع موهبته وأدبه اداة بيد بلاده وشعبه، فكان حزب البعث العربي ، حامل نظرية قومية وانسانية شاملة ومتكاملة، ورسالة محبة للانسانية جمعاء.
لقد كان الأستاذ هو السندباد ، يبحث عن النقطة السحرية التي تعيد الي الناس الرجاء...





دراسة وتحليل لمسرحية الأستاذ ميشيل عفلق

موت السندباد
مسرحية ذات فصل واحد
نشرت في مجلة الطليعة / دمشق
العدد الخامس تموز (يوليو) 1936.

ترجمت مسرحية موت السندباد الي الانكليزية وصدرت في كتاب
The Modern Arabic Short Story
The Death of Sindbad
(A Narrative in one act by Michael AFLAQ)
by Profeor Mohammad Shaheen
7

05-19-2005, 01:41 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  صورة الذات والآخر‏:‏ دراسة حالة لرواية‏'‏ موسم الهجرة للشمال‏'‏ Obama 1 1,608 10-17-2008, 06:06 AM
آخر رد: Obama
  حريق بغداد يوميات أصبحت مسرحية تعرض في أدنبرة محارب النور 1 616 09-18-2006, 08:01 AM
آخر رد: محارب النور
  مسرحية «مدرسة الدكتاتور» مترجمة إلى العربية.. بسام الخوري 1 700 05-09-2005, 12:47 PM
آخر رد: بسام الخوري
  مسرحية : وهابي وصاروخ صيني د. أنور عبد الله arfan 4 858 03-19-2005, 07:31 PM
آخر رد: arfan

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS