الاعجاز العلمي
إعجاز علمي: أم كلام عجائز؟
قراءة نقدية في كتاب موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة لمحمد راتب النابلسي"
بقلم حمزة رستناوي
تاريخ النشر: 2008-02-20
يعرض النابلسي في مقدمات كتابة فهمه الخاص لمصطلحات الإعجاز – العلم- في القرآن و السنة
أ- مقدمات الكتاب
1- الإعجاز: يحمد الله و يثني عليه و يعرض لأفكاره حول التوحيد و السببية و المعجزة, معتمدا ً مقولات المذهب الأشعري في العقائد * فيرى أن " من اعتقد أن الأسباب وحدها تخلق النتائج ثم اعتمد على الأسباب وحدها فقد أشرك"ص8 و يرى أن "الأسباب وحدها لا تقود إلى النتائج إلا بمشيئة,الله"ص9, و يرى أن المعجزة هي البرهان على صدق النبوة يقول : " و هنا تأتي المعجزة لتكون برهانا ً على صدق إرسال النبي و مصداقية منهجه"ص9, فالدليل على صدق النبوة هو دليل خارجي من وجهة نظره
و يقول أيضا ً : " و المعجزة في بعض تعاريفها خرق لنواميس الكون و لقوانينه, و لا يستطيعها إلا خالق الكون , لأنه هو الذي وضع القوانين و النواميس "ص9. و يضيف " و المعجزة ممكنة عقلا ً غير مألوفة عادة , فهناك فرق بين أن يحكم العقل على شيء باستحالته , و أن يعلن عجزه عن فهم هذا الشيء" ص9 ثم يستدرك النابلسي قائلا :ً" فالناس يخاطبون عادة بأصول الدين, و المؤمنون يخاطبون بفروع الدين و الحديث عن المعجزات من فروع الدين, فإذا كان الأصل مهتزا ً فلا جدوى من الحديث عن المعجزات "ص10
و يميز بين معجزات حسية محدودة بالزمان و المكان و هي معجزات الرسل السابقين " إذن معجزاتهم كتألق عود الثقاب , وقعت مرة واحدة , و أصبحت خبرا ً يصدقه من يصدقه, و يكذبه من يكذبه"ص11 و بين معجزة مستمرة " هي آيات الإعجاز العلمي في الكتاب و السنَّة"فيقول : "أما نبينا محمد " ص" الذي هو خاتم الأنبياء و المرسلين , و أرسل إلى الناس كافة بشيرا ً و نذيرا ً, فينبغي أن يكون من معجزاته ما هو مستمر, و لذلك كانت آيات الإعجاز العلمي في الكتاب و السنة معجزة علمية نصية" ص11 و بذلك يصل النابلسي إلى بيت القصيد " المعجزة العلمية النصية. و يشير إلى 1300آيه تتحدث عن الكون و خلق الإنسان في القرآن الكريم "و هذه الآيات تقترب من سدس القرآن"ص11 و هو يرى أن آيات الكون تقتضي " التفكر"و لحكمة إلهية بالغة لم يفسر النبي هذه الآيات " و لو فسرها تفسيرا ً يفهمه من سيأتي بعده لاستغلق هذا التفسير على من حوله و لذلك تركت هذه الآيات للعصور اللاحقة"ص12
2- العلم: يعرف النابلسي العلم فيقول : " و العلم كما يرى بعض العلماء , علم بالله , و علم بأمره, و علم بخلقه, أو علم بالحقيقة و علم بالشريعة و علم بالخليقة " ص13
و يدعم وجهة نظره حول العلم بالله بآيات قرآنية تحض على التفكر في خلق الله" قل انظروا ماذا في السموات و الأرض و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون "يونس101
وأما عن العلم بأمره – أي علم الشريعة - فيقول: " و الشريعة عدل كلها , و رحمة كلها , و مصالح كلها, و حكمة كلها"ص16 و يدعم وجهة نظره بحديث للبخاري"من يرد الله به خيرا ً يفقهه بالدين" البخاري 71
أما الفرع الثالث من العلوم – وفق النابلسي- فهو علم الخليقة أي العلم بخلقه" فيقول: " و تعلم العلوم المادية , و التفوق فيها قوة , يجب أن تكون في أيدي المسلمين ليجابهوا أعدائهم , أعداء الحق و الخير و السلام , تحقيقا ً لقوله تعالى " و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم"الأنفال60
3- في القرآن و السنة : يميز النابلسي بين أنواع الإعجاز في القرآن الكريم بين إعجاز بلاغي و تاريخي و مستقبلي و تشريعي و أخيرا ً- موضوع الكتاب – الإعجاز العلمي.
و يرى أن" الإعجاز هو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي , و ثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول"ص19
و يرى " أن المعجزة القرآنية – بما تتضمنه من حقائق علمية – دليل على عالمية الرسالة الإسلامية"ص19
و يميز بين التفسير العلمي و الإعجاز العلمي " فالتفسير العلمي هو كشف عن معاني الآية أو الحديث, في ضوء ما ترجحت صحته من حقائق العلوم الكونية , أما الإعجاز العلمي فهو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرا ً, و ثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية , في زمن الرسول" ص23
و ثم يبين النابلسي المنهج الذي اعتمد عليه في كتابة - الموسوعة- فيرى أنه " لا يمكن أن يقع صدام بين قطعي من الوحي و قطعي من العلم التجريبي , فإذا وقع في الظاهر فلا بد أن هناك خطأ في اعتبار قطعية أحدهما , و هذه قاعدة جليلة قررها علماء المسلمين , و قد ألف غير واحد من العلماء كتبا ً تؤكد حتمية توافق العقل مع النقل" ص24
و يكرر الفكرة ذاتها بوضوح أكبر" إذا وقع تعارض بين دلالة قطعية للنص و نظرية علمية , رفضت هذه النظرية , لأن النص وحي ٌ من الذي أحاط بكل شيء علما ً , و إذا وقع التوافق بينهما كان النص دليلا ً على صحة تلك النظرية , و إذا كان النص ظنيا ً و الحقيقة العلمية قطعية يؤول النص بها , و حيث لا يوجد مجال للتوافق فيقدَّم القطعي" ص25
ثم يبين النابلسي أوجه الإعجاز العلمي فيرى من بينها" تصحيح الكتاب و السنة لما شاع بين البشرية في أجيالها المختلفة من أفكار باطلة حول أسرار الخلق" ص26
أما عن الضوابط التي يلزم بها النابلسي نفسه في بحثه في الإعجاز العلمي في الكتاب و السنة – و سأوردها كلها لأهميتها في بيان وجهة نظره:
أن تراعي معاني المفردات كما كانت في اللغة إبان نزول الوحي, و أن تراعي القواعد النحوية و دلالاتها , و أن تراعي القواعد البلاغية و خصائصها , و لا سيما قاعدة "ألا يخرج اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة كافية "
البعد عن التأويل في النصوص المتعلقة بالإعجاز العلمي في القرآن الكريم و دلالة نبوة النبي"ص"
ألا تُجعل حقائق القرآن موضوع نظر , بل تجعل الحقائق هي الأصل : فما وافقها قبل , و ما عارضها رفض
ألا يفسر القرآن إلا باليقين الثابت من العلم , لا بالفروض و النظريات التي ما تزال موضع محص و تمحيص " ص27
و يتابع النابلسي ضبطه لمصطلح التفسير العلمي للقرآن و السنة و رافضا ً:
1- إذا اعتمد على النظريات العلمية التي لم تثبت و لم تستقر...
2-و مرفوض إذا خرج بالقرآن عن قواعد اللغة العربية و مدلولاتها زمن النبي"ص"
3- و مرفوض إذا صدر عن خلفية تعتمد العلم أصلا ً و تجعل القرآن تابعا ً
4- و مرفوض إذا خالف ما دل عليه القرآن في موضع آخر , أو دل عليه صحيح السنة
5- و مرفوض ممن هب ودب من الذين لم يتحققوا في أخذهم , و لم يتثبتوا في إلقائهم, و هم يزعمون أنهم على علم , و العلم منهم براء
6- أن يكون التطابق عفويا ً و تاما ً , لا مفتعلا ً أو متكلفا ً"ص28-29
" ملاحظة: لم يرد الترقيم في الكتاب وقمت به لسهولة المراجعة"
و يبلغ طموح – النابلسي- ذروته مؤكدا ً أنه "بإمكان المسلمين أن يتقدموا لتصحيح مسار العلم في العالم , ووضعه في مكانه الصحيح"ص29
............
ب- مناقشة مقدمات الكتاب:
كيف ينظر النابلسي إلى العلم؟ و ما هو العلم؟ و ما مهمة العلم؟ و ذلك قبل الخوض في أي نقاش حول الإعجاز العلمي و التفسير العلمي , فهو لا يرى العلم " كقوانين موضوعية قائمة على الاستنتاج العقلي و القياس التجريبي". و إذا كان النابلسي يملك فهما ً مختلفا ً عن هذا التعريف البسيط - بما استقر عليه العقل البشري حتى الآن- فكيف نناقشه في الإعجاز العلمي إذا كان فهمه للعلم ملتبسا ً, يقول " الأسباب وحدها لا تقود إلى النتائج إلا بمشيئة الله"ص9 هذا قول يقع خارج دائرة العلم و من المفضَّل للنابلسي و ضعه في مكان آخر خارج كتاب يدَّعي العلم لا بل يدَّعي أنه قاهر العلم و العلوم
" فالأسباب تقود إلى النتائج" هذه المقولة نفسها التي يستخدمها النابلسي و غيره من رجال الدين في إثبات وجود الله على اعتبار الله - مسبب الأسباب- فكيف نجترئ الطعن بها؟
و كذلك لا يسع أي إنسان عاقل - عالما ً كان أم جاهلا ً- إلا أن يأخذ بها حتى من دون التصريح بذلك , فلكي يتقي برد الشتاء عليه تركيب مدفئة, و لكي تعمل المدفئة عليه شراء وقود, ووضعه في الخزان و من ثم إيقاد النار حتى تتحقق نتيجة الدفء, و الاعتراض الموجه من قبل المؤمنين لا توقد المدفئة إلا بمشيئة الله, لن يفيدني من الناحية العملية مع احترام مشاعر المشاعر الإيمانية و تقديرها .
الأسباب تقود إلى النتائج طبعا ً ليس في صيغة بسيطة دائما ً, و لكن ضمن صيرورة احتمالية نسبية تتدخل فيها عوامل متعددة أو بسيطة , فالعلم يقول الأسباب تقود إلى نتائج عند فهم القانون الذي نسلك فيه هذه الأسباب عبر طرق تشكل مختلفة – وربما معقدة- للوصول إلى نتائج
و أما إضافة عبارة " بمشيئة الله" فهذا يدخلنا ضمن حقل آخر هو اللاهوت؟ و لا دليل عليه – من داخل الحقل العلمي- كما لا دليل ضده بالمقابل؟
و لو اعتمد النابلسي هذا الفهم – البديهي- للعلم فلن يضير دراسته في الإعجاز العلمي شيئا , ً بل و لربما جعلها أكثر رصانة ! و يتابع النابلسي قولة : " من اعتقد أن الأسباب وحدها تخلق النتائج ثم اعتمد على الأسباب وحدها فقد أشرك" ص8
هذا القول ينتمي إلى حقل اللاهوت و ليس حقل العلوم و المنطق العلمي , و هو قول مثير للجدل عامة, فالحكم بالشرك ليس بالأمر البسيط , من السهل إطلاقه ولكن ليس من الحكمة استسهاله, فقد يكون بوابة لنفي الآخرين و إقصائهم بل و حتى تصفيتهم جسديا و معنويا ً . و أظن أن عنوان الكتاب " موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة" أي من المفترض جعل القارئ يؤمن أو أن يصبح أكثر إيمانا ً بعد قراءة الكتاب و ليس تكفير الناس فذلك خرق لبداهة من بداهات الدعوة إلى الله..
و القول السابق للنابلسي يقع خارج حقل العلم و الإعجاز العلمي , و هو ينتمي إلى عالم العقائد و اللاهوت و القناعات الذاتية , و لكني مضطر إلى مناقشته , فالله الذي خلق النواميس و الكون ألم يخلقها وفق قوانين
و لا ينقص من إيماننا شيئا ً, لو اكتشفنا قوانين الله و شفراته لإعمار الحياة و الكون؟ و هذا مقصد من مقاصد الشريعة عظيم؟ هل من الضروري أن يخرق الله نواميس الكون و قوانينه لنؤمن به؟
ثم هل من مبرر منطقي و ضروري لهذا الخرق , ألا يمكننا كبشر - مؤمنين و غير مؤمنين- أن نعيش بدونه
مادمنا نعيش كبشر- بشكل ايجابي - بدون هذا الخرق
مادمنا نستطيع الإيمان بالأنبياء بدون هذا الخرق اعتمادا ً على نقاش سابق؟
لنعيد صياغة قول النابلسي " بأن الله الذي خلق النواميس و الكون يحثنا و يأمرنا بتأمل الكون و النواميس التفكر في العالم و البحث عن سننه" كي يكون إيماننا إيمان تفكر و تدبر لا إيمان معجزات و خرافات؟
إن خرق القوانين و النواميس يقوم به الله – وفق النابلسي- و لكن إرادة الله لا تتجلى بشكل مباشر, فالله ليس مجسد بشخص أو شيء محدود؟ فالخرق يتم على يد بشري , و بالتالي يستطيع هذا البشري ادعاءه لنفسه, أنه – هو - الذي خرق هذه القوانين, ما يتبع ذلك من استثمار قد يكون سلبي إلى حد كبير؟
- مثال:أحمد تحول إلى ذبابة و هذا خرق واضح لنواميس الكون
و عندما يعود أحمد إلى حالته الإنسانية يقول لمشاهديه:
أنا أحمد إلهكم " و العياذ بالله" أستطيع أن أخرق قوانين الكون التي تعرفونها, لأني أنا من صنع هذه القوانين, و أن هذه القوانين صنعت لأمثالكم...؟ أحدهم سيقول دجال كافر
نفس المثال أحمد بعد أن عاد إلى حالته الإنسانية يقول لمشاهديه
أنا أحمد و هذه معجزتي
أنا أحمد إنسان صالح وولي الله؟
و هذا يفتح أمامنا باب طويل عريض للمدعين و الدجالين و الادعاءات المضادة؟ و إن كان أمثال هذا قليل في عصرنا إلا أنه كان منتشرا و بشده في عصور سابقة من مدعي الخرافات و المعجزات و النبوات و كلهم فاعلين اجتماعيين و دينيين و سياسيين بدرجات متفاوتة؟
أقول لا يمكن التحقق بشكل موضوعي من هذا القول " بأن الله وحده يستطيع خرق هذه النواميس؟!"
ليس المقصود من نقاشيً رفض الإلوهية , و لكن إقرار مفهوم للإلوهية يتفق مع البداهة و الفطرة, مفهوم ايجابي ينمي المصالح المشتركة للبشر , مفهوم :
يتفهم الظاهرة الدينية و يدرس طرق تشكلها كبعد إنساني وجودي و ليس كظاهرة علمية, فالعلم و الدين حقلان منفصلان لكل منهما هوية
الرقي باللاهوت الإسلامي من مستوى المفبركات و علم الكلام, إلى منظومة معرفية للعقائد و الإيمان قائمة بذاتها غير متكلة و ليست عالة لا على العلم و لا على غيره
فالعلم لا يؤدي لنفي الدين , و الدين لا يؤدي لنفي العلم بالضرورة , و العلم لا يؤدي للإيمان بدين أو تصور محدد دون غيره , بل يترك الايجابه أمام احتمالات متعددة أمام كل إنسان و له الحق في خياره الخاص الذي ترتاح نفسه إليه, و قد يعرضه على الآخرين من دون الادعاء أنه قد وقع على كنوز المعرفة و استملك أرض الحقيقة.
لنعود إلى النابلسي و لننظر إلى قوله " المعجزة ممكنة عقلا ً غير مألوفة عادة "
فهل من فرق بين أن يحكم العقل على شئ باستحالته, أو أن يعلن عجزه عن فهم هذا الشيء ؟
و لنتساءل هل إحياء الموتى "معجزة عيسى" أو البقاء حيا ً ثلاثة أيام في بطن حوت "معجزة يونس" ممكنتين عقلا ً و غير مألوفتين عادة ؟
وفق النابلسي هذا ممكن عقلا ً ؟ و إني أطالبه - و من يرى رأيه - أن يثبت لنا هذه الإمكانية وفق قوانين العقل و العلم مع تحييد النصوص المقدسة كونها مقدسة عند جزء من البشر و ليس كلهم ؟ و لكون النقاش هنا علمي بحت و ليس عقائدي إيماني؟ وهو لن يستطيع إلى ذلك سبيلا ً ؟ لذلك يعمد إلى تعطيل العقل و القانون و المنطق تحت مسمى المعجزة؟
فهل إحياء الموتى من الأمور التي لا يحكم العقل باستحالتها؟ أم أن هناك موتى كثيرون عادوا للحياة و حدثونا عن القبر و الجنة و النار ؟!
* ملاحظة : يجب استثناء حالات الموت الظاهري و هي من حالات السبات العميق, و تلك حالة لا تدخل في إطار الموت كتشخيص طبي و طبي شرعي و إن كانت تلتبس مع تشخيص الموت عند غير ذوي الخبرة الطبية , حيث حدثت عدة التباسات حولها في الأوساط الشعبية و نطالب هنا بتوثيق علمي لكل ادعاء من قبل لجنة محكمة تحوي خبرات و عدم الركون إلى أقوال و آراء..الخ.
إن إحياء الموتى معجزة وفق التعريف العام ووفق رواية النابلسي, و هو بالتأكيد غير مألوف عادة , لا و بل غير ممكن عقلا ً , و بالتالي لا ينطبق عليها تعريف المعجزة الذي اختطه و ألزم به نفسه .
و هو ظاهرة نعجز عن فهم مداركها, و لكن لم نرها حتى نحكم بوجودها , و من ثم إقرارها كمعجزة موجودة و لكنها غير شائعة الحدوث و غير مألوفة؟
و يرى النابلسي أن المعجزات من فروع الدين و المؤمنون يخاطبون بفروع الدين و بالتالي هو يقر بأنه يخاطب المؤمنين مسبقا ً بفروع الدين, و ضمنا المعجزة, لذلك لا داعي لسوق الحديث عن المعجزات في كتابه الإعجاز العلمي أصلا ً, فهذا لا يخدم موضوع الكتاب و لن يقنع غير المؤمنين بالإيمان ؟ و يستمر النابلسي مشككا ًفيقول" فإذا كان الأصل مهتزا ً فلا جدوى من الحديث عن المعجزات "
أي إنه يشكك في إيمان من ينكرون المعجزات ,
من المفترض أن القارئ – أي قارئ- لدى قراءة " موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن و السنة" سوف يوقن و يؤمن و ليس العكس , فهو قبل أن يعرض آراءه و معجزاته العلمية يقوم بضربة استباقية هدفها وضع كل من يخالفه في خانة " فإذا كان الأصل مهتزا فلا جدوى " و كأنه يأخذ بالكلام منحى قوله تعالى " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم " .........مع الفارق الكبير؟
فلا يجوز نقل صلاحيات الهداية و الضلال إلى بشري ؟ و الاطلاع على أسرار النفوس؟
خاصة أن هذا البشري يسوق موسوعة باسم العلم, أي أنه داعية لله غيور على الدين الذي هو دين العلم!
إن الكتاب المدروس يشكو من خلل منهجي مزدوج
استباق النتائج قبل البدء بالدراسة
التخلي عن المنهجية المنطقية و العلمية التي من المفترض أن تميز هكذا أبحاث؟
مهاجمة الخصوم و الاتكاء على غريزة التدين عند العامة, لاحظ قوله" من اعتقد أن الأسباب وحدها تخلق النتائج , ثم اعتمد على الأسباب وحدها فقد أشرك"ص8 و قوله: "إذا كان الأصل مهتزا ً فلا جدوى من الحديث عن المعجزات"ص10و كذلك في معرض حديثه عن مرض الإيذر يقول "...و هذا عقاب عاجل في الدنيا قبل عقاب الآخرة"ص 399" حينما تجاوزوا حدود الله عز وجل , و لم يعبؤوا بشرعه و لم يعبؤوا بنظافة العلاقة الاجتماعية , عندئذ جاء هذا المرض ليقلقهم و ليجعل حياتهم جحيما ً"ص399
فما ينقص النابلسي - و غيره من المشايخ المتأسلمين- هو الموقف الأخلاقي و الشعور الإنساني , فبغض النظر عن مسببات المرض و هي ليست بالضرورة الشذوذ و الانحلال الجنسي " فقد ينتقل الفيروس بالتلوث الدموي و الخطأ عند ذوي المهن الطبية , و قد ينتقل للزوج أو الزوجة و للأطفال و الخ..." أقول بغض النظر عن مسببات المرض لا يجوز الشماتة بالإنسان المريض , و هذا سلوك غير أخلاقي لا ينسجم مع روح الأديان و الرحمن الرحيم و الغفور الكريم.
بل يجب البحث العلمي عن مسببات و عن علاجات لمرضى الإيذر بدلا ً من تدبيج الصفحات في اجترار ما قيل سابقا ً من كلام لا يحمل أي سمة من سمات الإبداع و التجديد , هذا عدا النقص الفادح في منسوب الحس الأخلاقي و الإنساني؟ فالعلماء الذين يبحثون عن علاج للايذر , هم خير عند الله و عند عباد الله, و هم خير لمجتمعاتهم من الشيخ النابلسي الذي يدَّعي العلم و يصدر بحثه باسم" الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي" و دون الالتزام ببداهات و أساسيات المنطق و البحث العلمي ؟
ثم إن هؤلاء- العلماء الحقيقيون - ينقذون الناس من المعاناة و الموت و الشيخ النابلسي - و غيره من المشايخ - يشمت بالناس و يقول لهم هذا عقاب الله الذي تستحقونه , و بدلا ً من أن يخفف عنهم معاناتهم و يدعمهم على الصعيد النفسي والروحي و يبعث فيهم نوازع الإيمان كما يقوم غيره من رجال الدين في البلدان التي استفحل فيها الوباء؟
ثم أن هناك أوبئة كالسارس و السرطان و الجلطات و غيرها لا يحتاج انتقالها إلى سلوكيات لا أخلاقية و إباحية جنسية؟ فهل نشمت بهم ؟ و هل أرسلها الله عقابا ً على المجتمعات التي تزداد فيها نسبة الإصابة ؟
أعتقد أن دور رجل الدين غير ذلك أو من المفترض هذا ؟
لنفترض مجتمعا ً تفشت فيه الكوليرا و هو مرض ينتقل عن طريق التلوث الغذائي – طريق انتقال شرجي فموي طبيا ً- و ليس عن طريق الجنس أو الكحول أو لحم الخنزير ؟ و حدثت عقب تفشيه نسبة وفاة عالية ؟ فهل سينبري شيخنا و رجال الدين لتقريع المرضى و ذويهم بأنهم خالفوا أمر الله و لم يتقيدوا بالنظافة, و لم ينجزوا نظام صرف صحي جيد , و لذلك ابتلاهم الله بالكوليرا , فوظيفة رجال الدين غير ذلك يجب أن يقوموا بدور ايجابي في جمع تبرعات لعلاج المرضى و بث الثقافة الصحية و الوقاية من الأمراض في نفوس الناس و دعم المرضى نفسيا ً و مطالبة السلطات المحلية و الإدارية بتوقي انتشار المرض, و هذا واجب أي إنسان بغض النظر عن عقيدته و دينه فهو فطرة الله التي فطر الناس عليها؟
الكتاب موضوع الدرس بعد بحثه في الإعجاز و العلم , يخصص بحثه في الإعجاز العلمي دون بقية "علوم الإعجاز" و لكن لماذا ؟!
هل لأن العصر الذي نعيشه هو عصر العلم؟ ... أم لأنه على المسلمين المتهمين بالتخلف عن ركب العلم في هذا العصر أن يثبتوا - و لو بأي شكل من الأشكال - للغرب أنهم علميون جدا ً ,و أن دينهم دين العلم؟ لا بل إن لديهم من خزائن العلم و الإعجاز العلمي الكثير الكثير أكثر مما يظن الغرب الكافر ؟!
إن الاهتمام بالإعجاز العلمي هو من باب تبرير عقدة نقص موجودة في اللاوعي العربي الإسلامي,إذ لو كانت كل هذه الكنوز و الإعجازات العلمية موجودة في القرآن و السنة منذ أربعة عشر قرنا , ً فلماذا لم يكتشف المسلمون الأوائل و هم العباقرة - من أجيال الصحابة و أجيال الأئمة و المحدثين الثقات الجهابذة و هم الضليعين بعلوم اللغة و دلالاتها - النظريات العلمية و يسخرونها على أرض الواقع لينتجوا حضارة علمية و ثورة صناعية و قنبلة ذرية ؟ لماذا؟
لماذا لم يكتشفوا الميكروبات و الجراثيم المسببة للأمراض؟
لماذا لم يكونوا يعرفوا أن الدماغ هو مركز التفكير و المشاعر و ليس مضخة القلب؟
لماذا لم يعرفوا أن الهواء يتألف من أكسجين و نتروجين؟
و أن الجسم يحتاج الأوكسجين و يطرح غاز co2؟
و لماذا لم يكتشفوا وجود مرض يدعى الداء السكري مثلا ً؟
أم أن الشيخ النابلسي – و غيره من العقليات المشيخية – اهتدى إلى هذه الاكتشافات من طول تأمله في نصوص القرآن و السنة النبوية؟
فالقرآن – من وجهة نظري على الأقل- كتاب هداية و عقيدة و قيم , و ليس كتاب علوم و جيولوجيا و طب ,
فليست المشكلة في القرآن بل المشكلة في عقول من يقرؤون القرآن و يدافعون عنه بهذا الشكل العاطفي المنفعل التلفيقي المضحك؟
*
الكتاب موضوع الدراسة يرى الإعجاز العلمي حقيقة دامغة, و هو لم ينته بعد من صياغة مقدمة الكتاب فيرى القرآن معجزة مستمرة خص الله بها النبي محمد دون غيره من الأنبياء السابقين يقول" إذن معجزاتهم كتألق عود الثقاب , وقعت مرة واحدة , و أصبحت خبرا ً يصدقه من يصدقه و يكذبه من يكذبه"ص11
و تعليقا ً على ذلك نقول إذا كانت معجزات عود الثقاب موجودة عند الأنبياء السابقين و عند النبي محمد " وفق ما يقول تيار الشخصنة الإسلامية السائد الذي يمثله النابلسي"
فلماذا يدَّعي اليهود و النصارى و البوذيين و الهندوس و غيرهم أن كتبهم كذلك تحتوى إعجاز من نوع أو آخر , فقد ازدهرت الكتابات حول الإعجاز العلمي للإنجيل في القرون الوسطى , فهي ظاهرة عالمية و ليست خاصة بالمسلمين؟
و هي كتابات تزدهر في عصور انحطاط الأمم و عصور انغلاق المجتمعات و تقوقعها عبر فهم سلبي للهوية ,
ولقد فشلت كل هذه الدراسات حول الإعجاز العلمي – وفي كل الأديان حول العالم- في صناعة حتى قداحة أو دراجة عادية و لا أقول نارية؟
و لو تحرى شيخنا الموضوعية و منهج البحث العلمي لفكر كثيرا ً قبل إطلاق هذا الحكم الخلافي, و الذي سوف يثير حفيظة غير المسلمين و غير المؤمنين بالإعجاز العلمي بمن فيهم المسلمين قبل غيرهم!
فعلى الأقل يجب تأجيل هذا الحكم إلى حين الانتهاء من قراءة كتابه الموسوعة و استخلاص النتائج , و كذلك تأجيل هذا الحكم إلى ما بعد عرضه لأدلة و براهين يدرس فيها القرآن و الأناجيل و أسفار العهد القديم و من ثم يثبت وجود الإعجاز العلمي كخاصية متفردة للقرآن , و ليس يمر مرور الكرام على ذلك في الصفحة رقم " 11" من كتابه الموسوعة ؟ و إن لم يفعل النابلسي ذلك و هو لم يفعل ؟ فلا داعي الاستعداء الآخرين؟
- لنتوقف عند هاتين العبارتين للنابلسي
الأولى: عبارة يسمعها المؤمنين صباحا مساء على منابر المساجد و الفضائيات مفادها أن النبي " أرسل إلى كافة الناس بشيرا ً و نذيرا ً" ص11 و حتى هنا لن يعترض أحد فالدين الإسلامي هو دين عالمي و دين هداية على مستوى النصوص و , نسبيا ً على مستوى الفعل التاريخي .
و أما العبارة الثانية فهي :" فينبغي أن يكون من معجزاته ما هو مستمر" ص11 وهو يعود بنا إلى الإشكالية التي طرحناها حول نسبية الإعجاز و دور الإعجاز في منظومة الإيمان و طبيعة الإعجاز و المقصود هنا الإعجاز العلمي و لو كان المقصود الإشادة بالإعجاز البلاغي أو العقائدي لما تطرقنا إلى هذا الموضوع؟
إن المسكوت عنه في هاتين العبارتين هو أن الأديان الأخرى غير عالمية و ليس لديها معجزات مستمرة مثل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ؟
فهل المسيحية – على سبيل المثال- دين غير عالمي بغض النظر كون المسيح من بني إسرائيل و بعث وفق روايات إنجيلية إلى بني إسرائيل ؟
ببساطة عدد المسيحيين حول العالم أكبر من عدد المسلمين , فالمسحية دين يتحوى أعراق و شعوب متعددة منذ القرن الثالث الميلادي على الأقل على خلاف اليهودية مثلا ً؟
*
إن المادة الأولية من النصوص القرآنية - موضوع دراسة النابلسي- حول الإعجاز العلمي يحددها في "1300" آية لاحظ قوله :" ففي القرآن الكريم ألف و ثلاثمائة آية تتحدث عن الكون و عن خلق الإنسان, و هذه الآيات تقترب من سدس القرآن, و إذا كانت آيات الأمر تقتضي الطاعة و آيات النهي تقتضي الترك, فماذا تقتضي آيات الكون ؟ إنها تقتضي التفكر , لذلك ورد في الأثر :" تفكر ساعة خير من قيام ليلة" و لحكمة بالغة لم يفسرها النبي "ص" هذه الآيات , إما باجتهاد منه , أو بتوجيه من الله جلّتْ حكمته , لأنه لو فسرها على نحو يناسب فهم من حوله لأنكر هذا التفسير من سيأتي بعده, و لو فسرها تفسيرا ً يفهمه من سيأتي بعده لاستغلق هذا التفسير على من حوله, لذلك تركت هذه الآيات للعصور اللاحقة ليكشف التقدم العلمي في كل عصر جوانب الإعجاز فيها و بهذا يكون القرآن الكريم بما فيه من آيات كونية معجزة مستمرة إلى يوم القيامة " ص11-12
هنا لديَّ سؤال وجيه: إذا كانت هذه الآيات سدس القرآن – غير مفهومة و غير مستوعبة قبل عصر الاكتشافات الكونية الحديثة هذا يعني أنها نصوص مكتفية مستغلقة لم يكن لها مفاعيل في العصور السابقة ؟ و قد فعِّلت هذه النصوص الآن في ضوء معطيات العلم الحديث؟ ترى هل يخاطب النبي مجتمعه و أصحابه بلغة و عن أمور لا يفهمونها؟
و إذا لم يستوعبوها و يفهموها هل هذا شهادة تقدير لهم ؟ فالرسول كان بين أيديهم و الإنسان العاقل جبل على السؤال؟
لتوضيح وجهة نظري هذه سأسوق عدد من الآيات التي يعنيها بقوله " آيات كونية تقتضي التفكر"
و آيات الله في الآفاق
1- قل انظروا ماذا في السماوات و الأرض و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون- يونس 10
2- فلينظر الإنسان إلى طعامه , أنا صببنا الماء صبا , ثم شققنا الأرض شقا, فأنبتنا فيها حبا ً, و عنبا ً و قضبا , و زيتونا و نخلا ً , و حدائق غلبا- عبس24-30
3- فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى و الله أعلم بما وضعت و ليس الذكر كالأنثى - آل عمران 36
4- إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون " البقرة 164
فكلها آيات لا تحتاج إلى شرح فكل من يقرآها يستوعبها, و هي أنزلت لتستوعب فورا ً , فيتأمل الإنسان الكون و الحياة و الليل و النهار و السماء و الأرض...فليس القضية قضية إعجاز و لا من يحزنون ؟
فالإعجاز هو في عملية الخلق بحد ذاتها و ليس في النص القرآني الذي يتناول الخلق و يدعونا للتفكر؟
ببساطة الآية تقول لنا لنتأمل السفن و نتأمل إخراج الأرض للبذور بعد المطر لنرى عظمة الله فالآيات المذكورة عملت مفاعيلها و لا تزال مفاعيلها إلى الآن و للمستقبل و يجب أخذها في الإطار العام من دون تفاصيل, فالآيات ليست علمية بل هي تأملية فكرية إيمانية واضحة الدلالة؟ و تصنيفها كإعجاز علمي هو من باب تحميل الشيء ما لا يحتمل؟ و سأناقش نماذج أخرى لاحقا ً..؟
*
ما هو تعريف النابلسي للعلم , و ما ذا يقصد به ؟
من يتكلم عن الإعجاز العلمي عليه أن يحترم العلم كمنظومة قائمة على البرهان والتجربة و المنطق فقط , فالعلم هو العلوم بالمعنى الخاص " الطبيعية و التجريدية " و ليس شيء آخر
و لكن النابلسي ما زال على عادة الفلاسفة و الأصوليين و المتصوفة الإسلاميين في القرون الوسطى يمطط مفهوم العلم , ليرى علم الحقيقة و علم الشريعة و علم الخليقة و يجذبنا بذلك نحو دائرة اللاهوت الإسلامي
فما يطلق علية علم الحقيقة هو العلم بالله و ليس العلم بالمعنى الخاص, و هو بصورة أدق معرفة ذات أبعاد كلامية حدسية و ليست علم بالمعنى الخاص المقصود!
و يستدل على علم الحقيقة بنصوص قرآنية , و الاستدلال يتم هنا خارج إطار الإعجاز العلمي و البحث – الفرضية – المراد إثباتها .
أما علم الشريعة فهو ليس أكثر من الفقه ذاته أي أنه علم الدين, و هو علم على سبيل المجاز فقط مثلما نقول علم الصيام و علم المواريث أو علم أحكام الوضوء.... فهذا يعني المعرفة من وجهة نظر عقائدية شرعية نصية أي الأحكام و أدلتها و هو مبثوث في كل كتب الفقه و هذا خارج إطار الإعجاز العلمي.. و هو علم مجازي فعلم المواريث الإسلامي على سبيل المثال يمكن اختصاره في برنامج كمبيوتري سي دي فقط لا زيادة و لا نقصان لا بل إن ترسيخ قواعد الفقه كعلوم و قوانين ربما أدخله في طور الجمود...و أما العلم الأخير من العلوم النابلسية هو علم الخليقة و يقصد به العلوم الخاصة و هي موضوع البحث
و السرد السابق هو لتأكيد بداهة مفقودة في موسوعة النابلسي و هي أنه يتحفنا بموسوعة إعجاز علمي ,و لا يعرف و لا يضبط مصطلح العلم ؟ و هذا – في رأينا- إشكالية واردة جدا ً طالما أن كاتب البحث – الموسوعة – رجل دين لا يملك خلفية علميه تعلمه الصرامة في استخدام المصطل
|