Array
فعلا، ما علاقة ما تفضلت به يا بيوتيفل مايند بالعالمانية؟
ما هي العالمانية؟
[/quote]
العلمانيـــة ـ محاولــة فهـــم ـ
(سأكون حزينا اذا علمت أن مسرحياتي ستمثل بعد عشرين عاماً، فهـذا يعنـي ان المجتمـع الذي عملت على تغيـيره لم يتغـير)
سعدون هليل*
ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي، اخذت الانقسامات الدينية في اوروبا تمزق النظام القديم، وظهرت اطروحة معاكسة للاطروحة القديمة السائدة
وهي اطروحة الفكر الحر التي تعكس استقلال العقل البشري عن مصدر الوحي والنص. ان عبارة العلمانية secularism الانجليزية المستقاة من الكلمة اللاتينية saeculam تعني لغويا (الجيل من الناس) التي اصبحت تشير لاحقا الى (العالم الزمني) في تميزه عن العالم الروحي ومن حيث التشكيل والصيرورة ان العلمانية هي ثمرة اوضاع خاصة عاشتها مجتمعات اوروبا الحديثة، وهي في جوهرها كذلك تعبر عن قدسية الاقتناع الضميري والعقلي الحر. وكانت في النهاية امتحانا للمبدأ القائل (لا اكراه في الدين) و (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وفي وجه هذا التهديد حاولت الكنيسة الوقوف بصلابة، طوال قرنين، الى ان ذهبت ريح الثورات الغربية، ولا سيما الثورة الفرنسية التي كنست النظام القديم وفتحت الباب واسعا امام نظام جديد يعتمد العلمانية على الأسس الآتية:
* لا طائفية الدولة، أي الدولة الراغبة في تلافي التمزق بممارسة التسامح والمحافظة على وحدة البلاد واحترام حرية الضمير.
* علمنة المؤسسات العامة وذلك بجعل التشريع المدني مستقلا عن قواعد الحق الكنسي ونزع ادارة المؤسسات العامة من ايدي رجال الكنيسة، وهذا ما تم بالنسبة لعلمنة قوانين الزواج وعلمنة التعليم.
* الفصل بين الدولة والكنيسة وحصل ذلك باعلان علمانية الدولة في الدساتير، فما دامت هناك اديان متعددة فانها جميعا تستحق رعاية القانون، وهنا فان للدولة غايتها الخاصة بها، وهي الغاية المستقاة عن غاية الكنيسة، وهذا لا يعني ان الدولة ملحدة بل يعني انها علمانية.
اذن ان العلمانية هي جملة من التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية وهي تندرج في اطار اوسع من مجرد التضاد بين الدين والدنيا ـ كما هو شائع ـ وتنطوي على وجوه عديدة هي:
* وجه معرفي يتمثل في نفي واستبعاد الاسباب الخارجية عن الظواهر الطبيعية والاجتماعية ـ اي الميتافيزيقية وفي التشديد على التحول التاريخي الدائم.
* وجه سياسي يتمثل في عزل الدين عن السياسة (الدولة) وعزل السياسة (الدولة) عن الدين.
وجه اخلاقي قيمي بربط الاخلاق بالتاريخ والضمير وكل هذا يعني ان العلمانية شأن تاريخي او صيرورة تاريخية قابلة للبقاء والتطور، كما انها قابلة للانتكاس والتراجع لتساندها او تعارضها على ارض الواقع الاجتماعي.
يرى ـ فؤاد زكريا ـ كما يرى ـ محمد اركون ـ وصادق جلال العظم ـ د. عزيز العظمة ـ وجورج طرابيشي ـ وفالح عبدالجبار ـ د. عادل ظاهر وصالح ياسر ـ وطيب تيزيني وغيرهم.
ان العلمانية صيغة ضرورية لبلد متعدد الاديان، وكذلك العلمانية قضية مهمة يتوقف على حلها وكيفية التعامل معها حل العديد من القضايا المتصلة بالعقلانية والتنويروالتحول الديمقراطي. وكذلك نعتقد ان الاديان تحتل من العلمانية مكانة محترمة باعتبارها شأنا شخصيا بين الانسان وربه ولا يحق ان يتدخل فيه احد.
وفي هذا يتفق معظم هؤلاء على ان العلمانية ضرورة عقلية لا تتغير بمجتمع معين ولا ترتبط بعصر معين من عصور التاريخ وقد اثبتت التجربة التاريخية ان نطاق الحريات يتسع كثيرا في ظل الحكم العلماني الاتجاه، عنه في اي مجتمع تدار فيه شؤون السياسة على اساس ديني.
ويكتب المفكر الكبير الدكتور مراد وهبة (ان العلمانية نظرية في المعرفة، وليست نظرية في السياسة لان العلمانية، بحكم تعريفي لها هي (التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق).
وبهذا فان العلمانية لا تؤله الانسان ولا تقول بعصمته عن الخطأ وهي اي العلمانية تمثل شرطا ضروريا من شروط التعامل بين الدولة والمجتمعات الحديثة.
كما ان العلمانية توفر المرجعية والأسس المشتركة بكل اطراف الصراع الاجتماعي على السواء. ففي ظلها لا يحتجب الصراع على المصالح تحت عباءة الانتماء والاقليمية او الأثنية أي ان يكون صراعا على ارض بشرية يمكن من الاختيار بين البدائل العديدة من دون احتكار الاستناد الى مرجعية سماوية تلغي شروط الصراع اصلا، وعليه فليس في تسييس الدين مشكلة بحد ذاتها، بل المشكلة تدور في حالتين:
الاولى: هي انكار اي علاقة بين الدين والسياسة في حقلين من حقول الممارسة الاجتماعية، يهدف ابعاد الدين عن السياسة، وهذا الابعاد الافتراضي على مستوى حاضر العلاقة بين هذين الحقلين المتداخلين بشكل معقد كما وعلى مستوى الخبرة التاريخية للشعوب في الغرب والشرق، فالمشكلة ليست في تسييس الدين ولا في تديين السياسة انما المشكلة في السياسة في الوقت الذي تصعب ممارستهم لكليهما في خدمة هذا الطرف السياسي وذاك برغم محاولات انكارهم لذلك.
اما المحاولة الثانية: في إلغاء وتغييب الفروق بين الدين والسياسة ما يؤدي الى اعتبار الدين صالحا لكل زمان ومكان والنظر اليه على انه عقيدة دينية ودنيوية في الوقت نفسه ما يقضي بدوره الى (المالكية لله وحده) كما وردت في كتابات المودودي وسيد قطب والعديد من ممثلي السلفية المعاصرة. وبقدر تعلق الأمر بطبيعته وحدود العلاقة ما بين العلمانية والعقلانية اذا وافقنا كموقف يتعلق بالشروط المعروفة والممارسة عبر التأكيد على استقلالية العقل وقدرته على التعامل مع مختلف مجالات الحياة، فاننا نكون قد استبعدنا من الحياة المدنية فقط أولئك الذين يتنكرون لتأسيس التعايش في المجتمع، هذا التعايش يفترض التعدد والتنوع والاعتراف بالاخر المختلف طالما هو عضو في الهيئة الاجتماعية، يخضع لقوانينها ويتمتع بحقوقها. تبقى علينا الاجابة عن سؤال مفاده هل هناك تعارض واستبدال بين الديمقراطية والعلمانية؟ وهل نحن بحاجة الى ديمقراطية بلا علمانية او علمانية بلا ديمقراطية.
ان أهم الأسس في العلمانية تقوم على ضمان حرية الرأي والمعتقد للجميع. اذن كيف يمكن تصور ديمقراطية تتنكر للعلمانية؟ ألا يوصل هذا في احسن حالاته الى ما يسميه (جون ستيورت مل) الى (طغيان الأغلبية) وعلى العكس من هذا كيف يمكن تصور العلمانية من دون ديمقراطية ألا يؤدي ذلك الى الفاشية وكل دروب الشمولية والطغيان والاستبداد؟.
ان كل من الديمقراطية والعلمانية تظلان في اطار المجردات الذهنية والتنظيرات الفوقية ما لم تتم ممارستها في اطار العلاقات الاجتماعية بين الفاعلين الاجتماعيين في اطار مجتمع مدني تشكل العلاقات المدنية لحمته الحقيقية. غير ان هذا لا يقلل من اهمية الارتباط الواضح بين الديمقراطية والعلمانية، وفي سياق هذا الارتباط يصح التساؤل القائم كيف يمكن الدفاع عن الديمقراطية من دون الدفاع عن العلمانية، أي الدفاع عن مبدأ حرية المواطن العاقل داخل حدود المجتمع المدني ويصح القول ان الربط بين الديمقراطية والعلمانية ليس معرفيا كما قد توحي به بعض الكتابات المدرسة، بل ربط بالممارسة المعينة التي تؤخذ باعتبارها اشكالا معينة في الزمان والمكان للممارسة وذلك يعني في الآخر وحدة النضال الاجتماعي بالربط بين العلمنة في اساسها والديمقراطية في غاياتها الكبرى وصولا الى مرجعيات انسانية مشتركة كما يصح القول ان الدفاع عن الديمقراطية سيكون دفاعا ناقصا ومبتورا اذا سقط من الحسابات قضية الدفاع عن العلمانية. يقول المفكر التنويري الدكتور مراد وهبة حول تعريفه للعلمانية: انها (ليس الفصل بين الدين والدولة وان هذا الفصل معلول للعلمانية، اما علة هذا الفصل فهو التفكير النسبي مما هو نسبي وليس بما هو مطلق وهذا هو تعريفنا للعلمانية ونحن نتفق مع المفكرالدكتور مراد وهبة حول تعريفه للعلمانية.
اخيرا نختم حديثنا بقول المفكر الاسلامي العقلاني عبدالرحمن الكواكبي: (دعونا ندير حياتنا ونجعل الاديان تحكم في الآخرة).
* كاتب وباحث عراقي
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=a...e&sid=39703