المنطق المغيب في العقل الإسلامي
لقد قرأت في الأيام الأخيرة عدة مقالات عن جائزة الدولة التقديرية في مصر للدكتور سيد القمني ... وشاهدت المقابلة الحوارية بينه وبين الشيخ البدري رغم أني لست من المتابعين لمثل هذه الحوارات العقيمة .... ومن ثم قرأت عدة مداخلات حول هذا الموضوع ... وحيث أني أعترف أن هذا الموضوع قد أثار عندي بعض الأفكار الراكدة أو لنقل المواضيع المقفل عليها كوني قررت منذ زمن أن لا أدخل في جدالات دينية عقيمة لا طائل منها ... ولإن عملية التطوير والتنوير في الشعوب شاملة وتترافق بنهضة متكاملة ، وحيث أن البعض يرى أن الإسلام سبب للتخلف ويتجه مباشرة نحو الإسلام كي ينتقده وينسى أننا لا نستطيع أن نناقش عقل يغيب المنطق منه أصلاً وأن هذا العقل يجب أن نقوم بتنشئته أولاً وتعويده على شيء يسمى المنطق (بالمفهوم الفلسفي والعلمي) ... كان لا بد من طرح بعض الأفكار ولو بدت بسيطة .
إن أكثر ما لفت نظري من حوارات وجدالات دينية حول الإسلام خصوصاً وقضايا اللاهوت الإسلامي عموماً أنه قد يعتبرها البعض أنها جديدة أو أنه قد عمل فتحاً في مجال قراءات التراث الذي لم يقرأه الكثيرين ... ولكن بعدما أن قدرت لي المصادفة وبعض الاهتمام في فترة سابقة الاطلاع على كتب لعدة طوائف ومذاهب وفرق إسلامية كُتبت منذ أكثر من ألف عام ... اكتشفت بعدها كم كانوا متقدمين علينا في مجال الحوارات الدينية وكم نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين متأخرين نجتر ما كتبوه هم وقالوه وسبقونا إليه ولم نزد نحن على أن أعدنا قراءة المتوفر بين أيدينا وما خفي أعظم وصدقوني أقولها نتيجة لقراءات هالتني وشكلت لي صدمة بأن الحراك الثقافي الذي وصل إليه المسلمين منذ أكثر من ألف عام متطور أكثر مما نتداوله اليوم على النت ومنتديات الحوار وحتى في بعض كتب الباحثين ..
وكمثال بسيط على ما يعتقد البعض أنه جديد وشبهة مستحدثة
نقرأ كثيراً اليوم عن تحليلات وإثباتات عن أن محمد رسول الإسلام لم يكن ابن عبد الله وهو غير معروف الأب ... والذي صعقني ذات مرة أني قرأتها في أحدى الكتب المكتوبة منذ أكثر من ألف عام وكأنها أمر طبيعي والأهم أنهم لم يحاولوا في الكتاب أن يثبتوا هذه المقولة حتى .. أي يتعاملون معها على أنها مسلمة ومعروفة لا غبار عليها ... طبعاً فيما بعد فتشت بنفسي عن الحقيقة واكتشفت كم نحن متخلفين ولا نعرف شيء وأن هذا التاريخ الذي وصلنا هو تاريخ بدءاً من قريش ومروراً بالأمويين (الذين كتبوا جزءاً منه لحاجة في نفس يعقوب) وحتى العباسيين والدول التي انفصلت وأتت فيما بعد كان لهم مصلحة مجتمعين بخلق هالة قدسية حول شريعة محمد ....
إنها السياسة التي جعلت من الإسلام سماوياً كما جعلت المسيحية واليهودية من قبله ...
واليوم هل من أمل في أن تستنير الشعوب الإسلامية وتعرف أن الأديان والمذاهب والفرق والملل ... إلخ ، ما هي إلا مذاهب سياسية واجتماعية (تشكلت بفعل الطبيعة التكوينية للوعي الإنساني وبحثه الحثيث عن إجابات لأسئلة مستعصية ) قد أصبحت مرحلة سابقة يجب أن تُعامل على أنها تاريخ وموروث تاريخي وليس عقائدي ذا قدسية .. وبناء عليه ، عليها محاولة البحث عن إجابات بعقلية جديدة تستند إلى العلم والمنطق ...
وحتى لا أطيل عليكم بكلام يعرفه أكثركم سوف أتكلم عن فهمي للحالة التي يعيشها العقل الإسلامي اليوم ...
كنت قد نوهت سابقاً إلى أن الحراك العقائدي داخل الإسلام قد تتطور جداً إلى أن شتته شيع ومذاهب وفرق وفلسفات ... ولكن بعكس النهضة الأوربية التي ظلت مستمرة دون انقطاع حقيقي ، تعرضت فترة النهضة الإسلامية إلى انتكاسة أدت بشكل أو بآخر للرجوع والارتكاس إلى الاسلام البدائي أو البسيط إسلام قريش الذي نشأ نتيجة طموحات الأبناء (عبد المطلب وذريته) وخلافات الأعمام والأقارب في القبيلة الواحدة على الرئاسة وتسربله رداء الفقه والشريعة (سنة – شيعة) ... إنها الحقيقة المجردة البسيطة التي لا يريد المسلم أن يراها نتيجة سببين :
أولاً – تمتع العقل المسلم بميزة عدم الثقافة بموروثه على اختلاف مشاربه بشكل عام ...
ثانياً - وحتى لو تثقف فمشكلته أن بعد 14 قرناً من الصراعات على السماء ومن أجل السماء لا يقبل عقله أن يصدق أنها صراعات محض سياسية في الشكل قبلية في الجوهر ولا شيء غير ذلك ...
واليوم ترى العقل المسلم ينتفض عندما تذكر له الإسلام ومحمد ومقدساته (حتى ولو بصيغة حوارية) ويشعر بمسؤولية تصل حد التضحية بالذات من أجلها ، والسؤال لماذا هذا الغياب الواضح للمنطق في العقل المسلم ..؟
أنا لا أزعم أني أشخص الحالة بكل جوانبها فهي متشعبة وعميقة وتحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق ولكني أسوق ملاحظاتي السريعة دون الدخول في العمق وسأترك للقراء (المسلمين المؤمنين منهم خصوصاً) قبل أن ينتقدوا أن يعودا لتاريخهم لا أكثر ...
ولأنه إذا أمحلت الأرض ازدهرت السماء ، أدى محل العقول الإسلامية وخلوها من المنطق ووصولها لطرق مسدودة سياسياً واجتماعياً وثقافياً إلى التمسك بالإسلام على شكله الحالي البدائي والغرائزي .
وكمثال على حالة المحل التي يعيشها العقل الإسلامي ... طبعاً لن أتحدث عن مناسك الحج كمناسك وثنية قبل الإسلام أعتقد أن الجميع بات يعرف ذلك ولن أورط نفسي في جدال عقيم لا فائدة منه .
لكني قرأت فيما قرأًت بأن القرامطة قاموا باقتلاع الحجر الأسود من موضعه والاحتفاظ به لمدة تزيد على 21 سنة ومع ذلك حافظ الحجر الأسود على قدسيته بالنسبة للمسلمين وكانوا يعتبرونها محنة واختبار لكن ما صعقني وأنا أقرأ ومن مصادر أعتبرها موثوقة في سرد هذا التاريخ أن القرامطة وضعوا هذا الحجر المقدس عتبة لبيت خلاء لجعلها عبرة للمسلمين ...!!
صعقني مدى تغييب المنطق في العقل الإسلامي ، أن يحافظ الرمز على رمزية معينة مهما حصل فهذا أمر وارد ولكن أن يحافظ الرمز على قدسية معينة مهما حصل فهذا ليس أكثر من هبل ... ما هذه القدسية لحجر كان في بيت خلاء ، ولا زالوا يقبلونه إلى اليوم بعد عودة جزء منه هذا إذا كان نفسه الذي أعادوه القرامطة ...!!
هذه وغيرها من الصدمات التي تلقيتها أثناء قراءتي للتاريخ والتراث الإسلامي أوصلتني إلى قناعة ثابتة أن عملية التوضيح والنقاش العقلي وتشكيل صدمات إنعاشية للوعي الإسلامي بواسطة الحقائق المجردة ليس لها أي قيمة ما لم تترافق بعملية ارتقاء بالمنطق في العقل المسلم الذي يعاني التغييب نتيجة قرون من الانحطاط الحضاري ...
شكراً لسعة الصدور