متلازمة الحراك الثقافي والعنف الواعي
في مجتمعاتنا العربية
الجزء الأول
من المعلوم على المستوى العربي عموماً والمستوى السوري خصوصاً أن أي حراك ثقافي حقيقي في المجتمع هو حراك غير مستحب ويقابل بعين الريبة والعدائية الشديدة هذا إذا لم يمنع أصلاً .
وإن أخطر ما تواجهه أنظمة الصمود والتصدي و أنظمة الإعتدال العربي على السواء هو ظهور حراك ثقافي حقيقي في هذه المجتمعات يفتح الباب على مصراعيه لتناول إشكاليات المجتمعات العربية وهي إشكاليات ملحة على مختلف الصعد تبدأ من تحليلها وتشخيص أزماتها ومن ثم وضع حلول ناجعة للأزمات التي تعاني منها هذه المجتمعات ...
كلنا يدرك أن الديمقرطية هي مفهوم نسبي ، تطوره يتبع تطور مفاهيم المجتمع الحضارية وقيمه الإنسانية ، وكلنا يدرك أن الديمقراطية في صورتها النهائية هي مجرد مفهوم مثالي لا يستطيع أحد الوصول إليه فعلاً ، لأن الحركة الإجتماعية قائمة على تفاعل المصالح والأهداف من جهة وصراع المصالح والأهداف من جهة أخرى على المستويين الداخلي والخارجي للمجتمع .
ولذلك عندما ننشد الديمقراطية بالمفهوم العام فنحن ننشد مفهوم يوفر الاستقرار والأمن وتقدم للمجتمع ، في حده الأدنى هو أعلى من الحد الأعلى الذي توفره أنظمة التوتوليتارية القمعية والثيوقراطية والأيديولوجية على اختلاف أنواعها ...
ولو تناولنا التجارب الديمقراطية العربية "المفترضة" لأصبنا بخيبات أمل عظيمة نتيجة فشل هذه التجارب في توفير التفاعل المجتمعي الحقيقي بين الشرائح والتطييفات الاجتماعية المختلفة (لبنان) إذا لم نقل أنها وفرت موجة من العنف والعنف المضاد (العراق – لبنان سابقاً) .
وكلنا هنا يدرك أن سبب فشل التجربة الديمقراطية في الدول العربية هو فشل القيم الحضارية التي تحملها هذه المجتمعات ، وسيطرة عامل الدين كعامل وجودي مقرر في رؤية الآخر بصورة أساسية في هذه المجتمعات ، والذي أدى بدوره إلى صراع طائفي مذهبي بين طوائف المجتمع المختلفة وتسييس هذا الصراع قبل أن تتم عملية صراع بين القيم الإنسانية والحضارية من جهة و بين القيم الدينية الإلغائية المتخلفة من جهة أخرى فكانت العربة التي وضعت قبل الحصان ، وأدت إلى إعاقة العربة والحصان معاً ...
وليس خافياً عليكم بعد كلامنا السابق عن الديمقراطية وسبب فشلها كحركة تصحيح حتمية لمسار المجتمعات العربية أن سبب الفشل يرجع في أساسه إلى عدم وجود حراك ثقافي عربي نتيجة إنعدام جو الحرية (السياسية والاجتماعية والدينية على صعيد المجتمعات ككل والأفراد) اللازم لنمو زرع الحراك الفكري "المخيف" .
إنها مجموعة حلقات مترابطة ، الخلل في إحداها يؤدي إلى خلل عام في السلسلة وإلى انقطاعها حتى ، وكلما كان الخلل أكبر أدى هذا الأمر إلى تأخر عجلة التطور الحضاري للمجتمعات .
وكلما تأخرت عجلة التطور الحضاري كان هذا في صالح الأنظمة العربية على مختلف أنواعها ...
إن أي مساحة حرية بسيطة للمجتمعات ستؤدي بدورها إلى حراك ثقافي من نوع ما حتى لو لم يكن سياسياً ، وسوف يؤدي تدريجياً للوصول في النهاية إلى طرح مفاهيم الديمقراطية بشكل جدي في هذه المجتمعات .
إن النتيجة السابقة توصلنا إلى سؤال مفاده ... وما الحل ؟
قد يبدو أن العنف سبيلاً من أجل التغيير ولكن العنف إذا لم يكن واعياً (موجهاً ومقنناً) وبجرعات محددة فهو غير ذي فائدة ترتجى ..
إن أي عنف يهدف إلى إسقاط أي نظام ، هو عنف لا محدود في منسوبه ومدته كون الأنظمة تتفاوت في قوتها ... وهذا يعطي النظم الحق في الدفاع عن نفسها وهذا من طبائع الأمور ، ويؤدي إلى بروز أنظمة جديدة قائمة على العنف ... أي الدخول في حلقة مفرغة ، فما يكتسب بالقوة لا ينتزع إلا بالقوة .
أما العنف الذي يؤدي إلى إجبار النظام على إعطاء مساحة من الحرية للشعب مهما صغرت(عنف المظاهرات والإضرابات) فهو يؤدي إلى إجبار الدولة على تقنين عنفها ... ويؤدي إلى الحصول على المكتسبات تدريجياً وبشكل تراكمي متتابع غير ذي أثر رجعي ...
إن ترسخ ثنائية الحراك الثقافي والعنف الواعي كمتلازمة من أجل التطور هو تلازم عضوي لا مفر منه . لأن الأنظمة تحاول دائماً وأبداً تشتيت أي مجموعة متماسكة ذات بعد أيديولوجي أو فكري أو حتى تيار عام منبثق من رحم المجتمع نحو التغيير.
فالأنظمة العربية وأجهزة أمنها واعية إلى هذه الأخطار وتعمل ليل نهار على إجهاض أي مجموعة ذات توجه ثقافي ناشئ ومتشكل .
ولا بد هنا من التشديد أنه على المثقفين و النخب السياسية والمجتمعية تحمّل الضربات التي تكيلها الأنظمة العربية لهم من تحت الحزام ، ورد هذه الضربات بطريقة عقلانية مقننة تقترب من العنف والثبات في وجهه ولا تلوغ فيه ...
وقد يكون أهم مبدأ على النخب أن تعتنقه عدم التعاون مع الجيش في أي عمل مضاد تجاه الأنظمة ... لأن من يفوض العسكر في التصدي لواجبه يفوضهم في التصدي للحكم على مصيره ومصير بلده ....
وقد يعلم أكثرنا أن أكبر كارثة كانت ولا زالت آثارها حتى اليوم على الشعوب العربية هي تسييس الجيوش والسماح لها بالتدخل في شؤون السياسة ...
وكما أن الدين يفسد الحياة السياسية للشعوب بالقداسة المزعومة إذا ما سيطر عليها ، فكذلك العسكر يفسدون الحياة السياسية باستخدامهم للقوة المفرطة عندما يأخذونها عنوة ويستسيغون سهولة تحقيق المكاسب السياسية في المجتمعات التي يحكمونها ولا يعود بإمكانهم أن يعودوا محاربين .
وإذا كنا متفقين على أن رجل الدين مكانه معبده وعلاقته مع إلهه "المفترض" ، فإن العسكر مكانهم ثكناتهم العسكرية وعملهم يتلخص في الدفاع عن الدولة ضد الأعداء الخارجيين تحديداً .
وبذلك تبدأ الخطوة الأولى نحو الدولة المدنية ....
يتبع ...