هل قتل الله إبنه في المسيحية؟
" طالمـا أن الله محبـّة,
فلمـاذا اضـطر المسيح أن يقـدّم نفسـه ذبيحـة فـداء
عـن خطـايانـا أمـام الله الآب؟"
أولاً: نظـرية موت المسيح كوفـاء متطلبـات العـدل الإلهـى:
هـذه النظـرية شاعت فى الغـرب منـذ أن أطلقهـا " أنسلموس" أسقف كانتـبرى ( 1033 ـ 1109 ), ولكنهـا غريبـة عـن تـراث الشرق المسيحـى ولم تتسرب إليـه إلا بطغيـان التأثيـر الغـربى فى عهـد الانحطـاط ...
بمـوجب هـذه النظـرية:
1 ) الخطيئـة الجـدّية ومـا تبعهـا مـن خطـايا, ألحقـت بالله إهـانة لا تُحـدّ ( لأن الكـائن الذى وُجّـهت إليـه كائـن لا يُحـدّ ) واستوجـبت غضبـه على النـاس...
2 ) كان لا بـدّ, مـن أجـل كـفّ هـذا الغضب أن تلبَّى متطلبـات العـدالة الإلهيـة, وذلك بتقـديم التعـويض المناسب عـن الإهـانـة اللاحقـة بالعـزة الإلهيـة...
3 ) من هنـا أنـه كـان لا بـدّ أن تُقـدّم إلى الله ضحيـة تتحمّـل كل أوزار البشر وترضى بمـوتهـا متطلبـات العـدالة الإلهيـة...
4 ) ولـم يكـن ممكنـًا أن تكـون هـذه الضحيـة مـن البشر أنفسهـم:
ا ـ لأنهـم كلهـم خاطئـون لا قيمـة فـدائية لموتهـم الـذى هـو مجـرّد العقـاب الواجب على خطـاياهـم. فى حين أن الضحيـة كان يجب أن تكـون بريئـة ليكـون لموتهـا قيمـة فـدائيـة...
ب ـ لأنهـم محـدودون وليس بإمكـانهـم بالتالى, ولو ماتـوا كلهـم, أن يعـوضـوا عـن الإهـانة التى ألحقتهـا الخطيئـة بالله, إذ هـى إهانـة لا محـدودة كونهـا موجهـة إلى الكائـن اللا محـدود...
5 ) هـذه المعضـلة حـلّهـا التـدبير الإلهـى بتجسـد ابن الله الوحيـد ومـوته على الصليب:
ا ـ فالضحيـة كانت كائنـًا بريئـًا من العـيب , وبالتالى يمكـن لمـوتـه الطـوعى أن يُقبـل كثمـن العـفـو عن الخطـأة...
ب ـ والضحيـة كانت كائنـًا لا محـدودًا, وبالتـالى فإن موتهـا كان يوازى حجـم الإهـانة اللا محـدودة اللاحقـة بالله...
ثانيـًا: تقـويم هـذه النظـرية:
هـذه النظـرية الحقـوقيـة للفـداء التى سادت الفـكر المسيحـى لحـقبـة طـويلة ولا تزال رواسبهـا الشعـورية واللاشعـورية ممتـدة إلى يومنـا هـذا, تنـاقـض جـذريـًا الإعـلان المحـورى للإنجيـل, الـذى يجعـل منـه بالفعـل " إنجيـلاً" أى " بُشْـرَى", وهـو [ أَنَّ الله مَحَبَّـة] [ 1 يوحنا 4: 8, 16]...
وقـد كان لهـذا آثـارًا فـادحـة:
1ـ فقـد رسمت عن الله صـورة رهيبـة...
صـوّرته إلهـًا ساديـًا يرتضى عـذاب ابنـه الوحيـد وموتـه لا بـلّ يمعـن فى تعـذيبـه إخمـادًا لغضـبه...
فقـد قال اللاهـوتى الكاثوليكـى المعـاصر الأب " جان كردونيل" من عظـة ألقـاها, سنة 1660, الواعـظ الشهير المطـران " بوسوّيه":
" ... كان ( الله ) يخمـد غضبـه بتفريغـه. كان يضـرب ابنـه البـرئ, الذى كان يصارع غضب الله, هذا ما كان يجرى على الصليب, إلى أن قـرأ ابن الله فى عينى أبيه أن غـضبه هـدأ تمـامـًا, فرأى أنـه حان الوقت لكى يفارق العالم" ؟؟؟؟....
ولا عجـب إذا رأينـا الأب " كاردونيـل" ينعـت هـذا النصّ, مع أن المتلفـظ بـه أحـد أقطـاب الكـنيسة الكاثوليكيـة فى القـرن السابع عـشر, بأنـه
" منفـّر ومعـادٍ جـذريـًا للمسيحيـة"...
هـذا, وفى أيامنـا هـذه, سمعت ذات يوم, فى البرنامـج الدينى " حـول العالم" الذى يُبث بالعـربية على موجـات راديـو " مونت كارلو" عـظـة تقـول أن المسيح كان, وهـو على الصليب, يعـانى, عـدا الآلام الجسديـّة, آلامـًا مبرّحـة أنزلتهـا بـه يـد العـدالة الإلهيـة مستعيضـة عـن معاقبـة الخطـأة !!!...
تلك الصـورة أثـارت اشمئـزاز الكثيرين من اللاهوتيين...
وهى تؤول إلى هـذا الاعتقـاد الغـريب بأن الخلاص الذى كان الله يسعـى إليـه إنمـا كان بالدرجـة الأولى خـلاص ذاتـه بتفريغـه غـضبـه على ضحيـة بريئـة!!!...
2ـ هـذه الصـورة الرهيبـة أُتـّخـِذت تبريـرًا لاستبـداد المتسلطين من حكام ورجـال دين, الذين تماهـوا بهـا فى عـلاقتهـم بالنـاس ( من هنـا محاكـم التفتيش والحـروب الصليبيـة ومـا شابـه ذلك )...
كمـا أنهـا أُتـّخِـذت ذريعـة لدعـوة النـاس إلى الخنـوع ( على مثـال المسيح الضحيـة ) أمـام الظلـم والتعسف والاستغـلال...
3ـ كمـا أن هـذه الصـورة كانت منطلـق دين إرهـابى فُـرض على النـاس طيلـة 600 سنـة ( من القـرن الرابـع عشر حتى مطلـع القرن العشرين ) وقـد بنى على إذكـاء الشعـور بالذنب والتخـويف من العقـاب الأبـدى, وبالتـالى كان على نقيـض البُشرى الإنجيليـة, بُشرى الخـلاص والتحـرّر والفـداء...
ويـرى اليـوم مؤرخـون مسيحيـون أمثـال Guillemin & Delumeau , أن هـذه النظـرية فى تعليـل مـوت المسيح ومـا نتـج عنهـا, كانت مـن الأسباب الرئيسيـة لانحسار المسيحيـة Dechristianisation فى الغـرب فى العصـر الحديث...
ثالثـًا: لمـاذا مات المسيح؟ قـراءة تاريخية للصلب:
من مساوئ النظـرية التى استعـرضناهـا, أنهـا تطـمس الوجـه التاريخـى لحيـاة المسيح, إذ أنهـا تهمـل الرسـالة النبـوية التى أدّاهـا فى حيـاته البشريـة, والتى لا تُعتـبـر, فى هـذا المنظـار, سوى الذريعـة التى كان لا بـدّ منهـا كى يبلغ مأربـه الأساسى, أعنـى المـوت التكفيرى...
والحـال أن من يطـّلـع بإمعـان على سيرة يسوع الأرضيـة يـرى بجـلاء أن مـوته لم يكـن تنـفيـذًا لنـوع من العقـد الضمنـى القـائم بينـه وبين الآب, بأن يقـدّم نفسه فى وقت محـدّد ذبيحـة عـن خطـأيـا البشر, بـلّ أن هـذا المـوت كان النتيجـة الطبيعيـة, فى أوضـاع تاريخيـة معينـة, لمجمـل المسار النبـوى الذى سلكـه يسوع فى حيـاته محقـقـًا بـه إرادة الله ومـؤلبـًا عليـه, من جـراء ذلك, قـوى الظلمـة...
تارخيـًا, لمـاذا صُلب المسيح؟ لأنـه تصـدّى طيلـة حياتـه بجـرأة لم تعـرف التخـاذل, للحكـم الدينـى التسلطـى القائـم فى شعبـه.
1ـ من كان يمثّـل هـذا الحكـم:
هـذا الحكـم كان يمثـّله:
** من جهـة رؤسـاء الكهنـة وشيـوخ الشعـب ( أى الوجهـاء ) وهـم أصحـاب السلطـة السياسيـة والاقتصـادية...
** من جهـة أخـرى المتبـة ( أى الفقـهاء أو اللاهـوتيـون ) والفـريسيون ( وهـم فريـق من الأتقيـاء المتشدّدين, كان ينتمتى إليـه كثيـرون من الكتبـة ), وهـم أصحـاب السلطـة المعنـوية والدينيـة [ ..عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ ] [ متى 23: 2]...
وكان هـؤلاء وأولئـك يتخـذون من الله ذريـعـة لتأكيـد سلطـتهم على حساب سحـق الشعب وإذلالـه:
ـ فرؤساء الكهنـة وشيـوخ الشعـب كانـوا يحتـقـرون الشعـب لأنـه كان بسواده الأعظـم فقـيرًا, فكانـوا يـرون فى غـنـاهم علامـة على رضى الله عـليهم ويـرون فى فـقر الشعـب لعـنة مـن الله... وكان رؤساء الكهنـة يتوافـقون مـع أغـنيـاء التجـار للإثـراء على حساب الشعـب من خـلال تجـارة الهيكـل, وكان خـدّام رؤساء الكهنـة يضـربون الشعـب, وكانت عـائلات رؤساء الكهنـة تحتـكر وظـائف الهيكـل... وكان رؤساء الكهنـة يستفيـدون مـن فتـوى تسمـح لمـن شاء بالتمـلص من واجب مساعـدة الأهـل المسنّين شرط أن يقـدّم للهيكـل جـزءًا رمـزيـًا منهـا...
ـ أمـا الكتبـة والفريسيون فقـد نصـّبوا أنفسهـم حمـاة للشـريعة وعقـّدوا فرائضهـا إلى حـدّ أنـه أصبـح شبـه مستحيـل على عـامـة النـاس أن يعـرفـوا دقـائقهـا وأن يـوفـّقـوا بين تنفـيذ أوامـرها الكثيـرة وبين انهمـاكهم فى أعمـالهم اليوميـة وتحصيـل رزقهـم... من هنـا أن الكتبـة والفـريسيين كانوا يحتـقـرون عـامـة الناس: [ وَلَكِنَّ هَذَا اَلشَّعْبَ اَلَّذِي لاَ يَفْهَمُ اَلنَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ ] [ يوحنا 7: 49 ]...
ويصنـّـفـونهم فى مصـفّ " الخطـاة" ( وكان معظـم هـؤلاء " الخطـاة" من الفـقـراء الذين لم تكن تسمح لهـم ظـروف حياتهـم القاسيـة لا بدراسة الشريعـة ولا بتنفيذها بحـذافيرهـا ) ...
بالإضافـة إلى ذلك, كانـوا يؤولـون الشريعـة بحيث تصبـح للنـاس عيئـًا وقيـدًا : [ فَإِنَّهُمْ يَحْزِمُونَ أَحْمَالاً ثَقِيلَةً عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى أَكْتَافِ النَّاسِ وَهُمْ لاَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحَرِّكُوهَا بِإِصْبِعِهِمْ ] [ متى 23: 4]...
فيُشبعـون بذلك, من حيث يشعـرون أو لايشعـرون, شهـوتهم للحكم والتسلّط...
من هنـا تفسيرهم لوصيـة السبت, التى وُضعـت أصـلاً رأفـة بالنـاس, تفسيرًا ساحقـًا يمنـع من معـالجـة المريض فى ذلك اليـوم إلا إذا كان مشرفـًا على المـوت [ ثُمَّ دَخَلَ أَيْضاً إِلَى اَلْمَجْمَعِ وَكَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. فَصَارُوا يُرَاقِبُونَهُ: هَلْ يَشْفِيهِ فِي اَلسَّبْتِ؟ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لِلرَّجُلِ اَلَّذِي لَهُ اَلْيَدُ اَلْيَابِسَةُ: قُمْ فِي اَلْوَسَطِ! ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ يَحِلُّ فِي اَلسَّبْتِ فِعْلُ اَلْخَيْرِ أَوْ فِعْلُ اَلشَّرِّ؟ تَخْلِيصُ نَفْسٍ أَوْ قَتْلٌ؟ .فَسَكَتُوا. فَنَظَرَ حَوْلَهُ إِلَيْهِمْ بِغَضَبٍ حَزِيناً عَلَى غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ وَقَالَ لِلرَّجُلِ: مُدَّ يَدَكَ . فَمَدَّهَا فَعَادَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى. فَخَرَجَ اَلْفَرِّيسِيُّونَ لِلْوَقْتِ مَعَ اَلْهِيرُودُسِيِّينَ وَتَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ ] [ مرقس 3: 1ـ 6 ]...
ويمنـع جائعـًا مـن اقتـلاع بعـض سنابـل القمـح فى ذلك اليـوم ومن فركهـا بين يـديه إشباعـًا لجـوعـه [ وَاِجْتَازَ فِي اَلسَّبْتِ بَيْنَ اَلزُّرُوعِ فَابْتَدَأَ تَلاَمِيذُهُ يَقْطِفُونَ اَلسَّنَابِلَ وَهُمْ سَائِرُونَ. فَقَالَ لَهُ اَلْفَرِّيسِيُّونَ: اُنْظُرْ. لِمَاذَا يَفْعَلُونَ فِي اَلسَّبْتِ مَا لاَ يَحِلُّ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ اِحْتَاجَ وَجَاعَ هُوَ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اَللَّهِ فِي أَيَّامِ أَبِيَاثَارَ رَئِيسِ اَلْكَهَنَةِ وَأَكَلَ خُبْزَ اَلتَّقْدِمَةِ اَلَّذِي لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ إلاَّ لِلْكَهَنَةِ وَأَعْطَى اَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَيْضاً؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اَلسَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ اَلإِنْسَانِ لاَ اَلإِنْسَانُ لأَجْلِ اَلسَّبْتِ. إِذاً اِبْنُ اَلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ اَلسَّبْتِ أَيْضاً ] [ مرقس 2: 23ـ 28]
|