بابا المحبة والتسامح والسلام.. وداعاً
دمشق
صحيفة تشرين
كلمة رئيس التحرير
الاثنين 4 نيسان 2005
د ــ خلف الجراد
بانتقال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الخدور العُلْويّة يكون العالم كلّه فقد شخصيةً ربّانية جسّـدت في دعواتها ومواعظها، وفي نهجها وسلوكها وأفعالها أعظم صور الصبر والإيمان وضرورة حوار الأديان والحضارات، وتضامن الإنسانية جمعاء في وجه الظلم والجبروت والطغيان والحروب.
على مدى ستة وعشرين عاماً؛ عمل البابا يوحنا بولس الثاني من أجل السلام، ونشر المحبة المسيحية الخالصة بين شعوب القارات ومجتمعاتها على اختلاف دياناتها وعقائدها ومذاهبها. لم يفرّق بين أبيض وأسود، أو أصفر أو خلاسي؛ بين أوروبي وآسيوي، أو بين كاثوليكي وبروتستانتي أو أرثوذكسي؛ بين مسيحي ومسلم أو بوذي، بل حتى بين مؤمن وغير مؤمن.. فقد كان همّه الأول وهاجسه الأكبر أن تتمازج الرؤى والتطلّعات والتوجّهات الإيمانية بين أبناء الكرة الأرضية، الذين أرهقتهم الحروب والكوارث والمشاحنات والصراعات الدامية ـ المدمّرة. ومن أجل هذه الأهداف النبيلة زار مئة وتسعاً وعشرين دولة؛ من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن أبعد بلد في الشرق الآسيوي أو الأفريقي إلى قارة أوستراليا.. ملتقياً شعوباً وأقواماً يجمعها التطلّع نحو السلام والوئام، والحلم بالعدالة، وتقهقر الظلم، والفقر والحرمان والكراهية والعنصرية.
لم يسعَ لإلغاء الانقسامات في العالم المسيحي فحسب، بل كرّس حياته ونشاطه الاستثنائي الهائل لنشر ثقافة الحوار المسيحي ـ الإسلامي، وخصّص جزءاً أساسياً من وقته لهذه المهمة العظيمة.
فكان الملهم لعشرات الندوات والملتقيات في هذا الاتجاه. وكان قداسته مؤمناً إيماناً قوياً بأهمية وحتمية وضرورة الحوار المسيحي ـ الإسلامي، وأن من أراد أن يخدم الربّ فعليه أيضاً أن يخدم قضية السلام والمحبة والتسامح.
انسجاماً مع مكانته الروحية ـ الكونية، وعقيدته وإيمانه، وقناعاته الراسخة برفض إزهاق النفس البشرية، وقف قداسته ضد الحروب، وعارض بشدّة، وبصورة علنية، الحرب الأميركية على العراق... ولم يبخل بمناشداته الرسمية والدبلوماسية وعظاته بالطلب إلى الرئيس الأميركي جورج بوش تجنّب هذه الحرب المدمّرة، التي حصدت زهاء مئة وخمسين ألف عراقي وأكثر من ألف وخمسمئة جندي أميركي، وأضعافهم من الجرحى والمعوقين.. ومازالت الحصيلة في تزايد مستمر.. إضافة إلى ما خلّفته من دمار وويلات وخراب وفوضى وانتهاكات خطيرة.
وقد وجّه اللوم للسلطات الإسرائيلية المسؤولة عن قتل آلاف المدنيين الأبرياء في أرض المسيح المقدّسة ـ فلسطين. وناشد العالم من الديار المقدّسة التكاتفَ والعملَ الحثيثَ لوقف معاناة الشعب الفلسطيني وآلامه.
ونحن في سورية ـ مهد الحضارات والمحبّة ـ كان لنا شرف استضافة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لمدة أربعة أيام (ما بين الخامس والتاسع من أيار 2001) واستقباله استقبالاً رسمياً وشعبياً يليق بمكانته الكبيرة؛ حيث ألقى السيد الرئيس بشار الأسد كلمة ترحيبية بقداسة البابا ركّز فيها على دور سورية التاريخي في حماية المسيحية وانتشارها إلى العالم عبر تلامذة المسيح الذين بشّروا بالأخوة والمحبة، كما انتشر منها الإسلام إلى العالم داعياً إلى العدالة والمساواة بين الناس؛ فلا يتميز أحد عن الآخر إلا بالتقوى. وأشار سيادته بفخر إلى حالة الوئام والتحابّ والترابط الاجتماعي والروحي والقيمي التي يتميز بها شعبنا، واعتزازه بجلوس ثمانية بابوات من أبناء سورية على الكرسي البابوي في الفاتيكان.
وقد عبّر السيد الرئيس عن تقديره العالي لزيارة البابا التاريخية لبلدنا سورية مهد الحضارات والديانات السماوية، وثمّن شعبنا بمسلميه ومسيحييه زيارته تلك وما أبداه خلالها من مشاعر إنسانية وروحية وتأثّر شديد باستذكاره مسيرة الرسول بولس الذي تغيرت حياته للأبد على طريق دمشق؛ حيث أبدى تقديره الكبير «للمساهمة العظيمة التي أدتها سورية في تاريخ المسيحية»، و«التأثير الثقافي العظيم الذي قام به الإسلام في سورية... ووصل إلى أبعد شواطئ البحر المتوسط».
وقد أكد قداسته تثمينه العالي لموقف سورية الهادف إلى السلام العادل والشامل، وعبّر عن ضرورة العودة إلى مبادئ الشرعية الدولية وأهمها: منع الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وحق الشعوب في تقرير المصير، وضرورة احترام قرارات هيئة الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف.
رحلت روح قداسة البابا يوحّنا بولس الثاني إلى بارئها، لكنَّ عظمة مواقفه وعمق إيمانه، وصلابة إرادته، وقدراته المعجزة في التضحية ومحبة البشرية جمعاء ، وفي مسامحة من حاولوا قتله، وفي تمسّكه بالفضائل المسيحية السامية، ورفضه لكل أشكال القهر والظلم وقتل النفس، تجعل خسارته كونيةً في شموليتها، هائلة في معناها، وصادمة في مدلولاتها ومغزاها وآثارها.
عزاؤنا مع العالم أن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني ترك خلفه تراثاً دينياً وإيمانياً وإنسانياً عظيماً لابد من أن يشكل معيناً ينهل منه من يخلفه في هذا المقام الكنسي الكبير، إضافة إلى ما نتوقعه من التزام بنهجه القائم على الانفتاح، والمحبة، والتركيز على مسألة الحوار المسيحي ـ الإسلامي، ورفض الحروب، والهيمنة، والتعصب، والأحقاد، والظلم، والعنصرية البغيضة.
فهنيئاً للبابا رحلته السماوية الأخيرة، وعودة روحه إلى مقامها ومستقرّها النهائي، حيث الطمأنينة والسكينة المطلقة على رجاء القيامة الأبدية... والمرتقى إلى الخلود في رحاب الملكوت الأعظم
http://www.tishreen.info/_ech.asp?FileName...220050404024752