اقتباس: arfan كتب
دلني يا استاذ علي الأحمد .. أين هو المنهاج الاسلامي الذي ثبرونا به ليل نهار هؤلاء المتكلمون عن تكامل النظرية الاسلامية السياسية؟
لا أدري إن كان المقصود إسماعيل أحمد ام غيره؟
أيا ما يكون فهناك خلط واضح وتلبيس بين يجعل اجتهادك أخي الفاضل غير مأجور ولا بأجر واحد لأن الاجتهاد ممن يفتقد أهليته إزراء يستحق العقوبة على انتحال صفة الغير، ولست أقول هذا من بنيات أفكاري، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما لرجل أفتى أحد المرضى بوجوب الغسل في يوم بارد، مع أنه كان يسعه -لو طلب العلم من مظانه- أن يفتي بالتيمم، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جرأة هذا الجاهل على الفتيا، وقال قولته التي لها دلالة أكثر من مجرد دعاء عليه بالموت، حيث قال في ذلك المجتهد وأشياعه: (قتلوه قتلهم الله)، وهو الذي قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)، فليس كل أحد يخبط في دين الله خبط عشواء، وينتحل صفة الحاكم مأجور إن أخطا، ل اعقلها وتوكل، خذ بأسباب الاجتهاد ثم اجتهد فإن أخطأت فإنما بذلت وسعك، فلا تيأس!
وتذكر بأن الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) والحاكم ها هنا في دلالة قرن النبوة هو القاضي، ولا مشاحة في الاصطلاح.
فالحاكم أو القاضي ليس إسماعيل أحمد ولا عرفان، بل رجل استكمل أهليته القضائية وأصبح اهلا للاجتهاد، فإن أخطأ في حكم فإنما هو بشر غير معصوم، ولعل أحد الخصوم يكون ألحن بحجته من الآخرين، فيقضي لهم باجتهاده! وهذا حصل مع النبي صلى الله عليه وآلهوسلم، أو لنقل قد نبه عليه في صريح أحاديثه...
نأتي لنظام الحكم في الإسلام، حيث ربط أخونا بين هذا وبين ان القرآن تبيان لكل شيئ، فخلص إلى أن القرآن كتاب قانون يحتوي على القوانين التفصيلية! وبالتالي قيفترض أن أقرأ فيه قانونا مفصلا للنظام الانتخابي، وتعريفات دستورية بشروط الإمام الأعظم ومدة ولايته وصلاحياته، وألوان علم الدولة ومقاساته ونظام الحكم أهو جمهوري أم رئاسي أم ملكي دستوري أم أميري!!
ولا أعتقد ان أحدا من المسلمين شارك أخانا عرفان في هذا المعنى إلا الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه يوما، ومع هذا فهم يلتقون معهم جزئيا حين يفهمون حاكمية القرآن بأنه سيتحول من آيات تتلى إلى مجلس قضاء يفصل في الدعوى ويستمع للشهود ثم يقول القول الفصل!!
أبدا يا صاحبي لم يقل بهذا إلامي إن كنت بالفعل حريص على نقد فكر الحركة الإسلامية، لا أن تشكل لنا من بنيات (اجتهادك!) فكرا بديلا ثم يكون قصاراك أن تحاكم ما اخترعته من أوهام!
دين الله تكلم عن أشياء وسكت عن أشياء رحمة بالأمة غير نسيان، ومن هذه الأشياء التي سكت عنها آلية الحكم وتفصيلاته التطبيقية، فتركت لاجتهاد البشر يختارونها بمحض إرادتهم ملكية كانت أو رئاسية أو جمهورية أو غير ذلك...
الخلفاء الأربعة اختار كل واحد منهم طريقة مختلفة ولو أنهم علموا أن طريقة من الطرق ملزمة ما فارقوها ولا انحرفوا عنها قيد أنملة.
في دين الله أيضا ثوابت محكمة، وهناك متغيرات ومتشابهات وغير قطعيات، ولكل من الأصناف المذكورة وضعه القانوني في تشريعنا الإسلامي...
فكم ثابت قاطع محكم كحرمة الربا أو الزنا أو السرقة أو المحرمات السبع التي جاء تفصيلها في الآية المشهورة (قل تعالوا أتل عليكم ما حرم عليكم ربكم...) هذه أحكام نهائية غير قابلة للتفاوض إسلاميا، ولا يملك أن يدعها المسلم إلا اضطرارا أو إكراها.
هناك أحكام شرعية كلية لكنها تأخذ طابع الإلزام ومما يتعلق بنظامنا السياسي الإسلامي من هذه الكليات، ثلاثة أسس قام عليها الكيان هي: (التوحيد ـ والاستخلاف ـ والشورى) تتضافر جميعا لتحقيق المقاصد العامة للشريعة في الإطار السياسي والتي تتركز في أهداف خمسة هي: الأمن ـ المساواة ـ العدل ـ العدالة ـ الحرية
من الإيمان بحقيقة التوحيد المطلقة، ومن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى ليس (علة) عقلية، كما يحاول أن يصير إليها المعطلة بأزيائهم المختلفة على مرّ العصور، تتأكد في عقيدتنا، أن ما شرعه الله سبحانه وتعالى من قواعد أساسية وقيم عليا ستبقى أساس الحياة الإنسانية الرشيدة، والوقاية التي تقي الإنسان من الانحدار.
أما الأساس الثاني من أسس النظام السياسي الإسلامي فهو أن الإنسان مستخلف في هذه الأرض لعمارتها والقيام على أمرها (إني جاعل في الأرض خليفة). (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه).
حقيقة الاستخلاف معنى واسع، يشمل كل أشكال النشاط الإنساني الذي يسعى إلى عمارة الكون، وجعل الحياة سهلة وميسورة. والناس كل الناس على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وعقائدهم، مناط بهم أمر الاستخلاف هذا. وفي حدود تحقيق أهداف الاستخلاف الكلية والجزئية ترك الإنسان حرّ الإرادة، كامل القدرة على التفكير والتمييز لإنشاء الاختيار الحر بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والخير والشر. في مفهوم الإسلام العام لهذين الأساسين التوحيد المطلق للخالق الرازق المدبر والمشرع، والحركة الدؤوب النشطة والملتزمة للمخلوق المستخلَف؛ تكمل الحياة الإنسانية دورها راضية مرضية. وحين يحدث الشقاق بين الخالق والمخلوق، بين الإنسان والنواميس التي ترك له أن يختار مداره ضمن مداراتها؛ يحدث الفصام النكد الذي يورث البشرية أنواعاً من البلاء والشقاء والضنك (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى).
بين التوحيد والاستخلاف، تتحقق ملامح المشروع الإنساني العام على هذه الأرض (المنطلق الرباني، والبرنامج الإنساني)، ولكن الإسلام لم يترك أمر تحقيق هذا البرنامج غفلاً، وإنما أناط أمره بأساس ثالث مكمل لمشروع الاستخلاف العام، فجعل أمر المسلمين (شورى بينهم) فالمشروع ـ مشروع الاستخلاف ـ ليس مناطاً بفرد ولا بطبقة، ولا بصاحب نفوذ من جاه أو مال أو سلطان، وإنما حقيقة الشورى هي توارد آراء أهل العلم والخبرة كل في ميدان اختصاصه على أمر من الأمور العامة التي تؤثر في تحقيق المشروع الإنساني العام في الاستخلاف.
والشورى في منظومة التشريعات الإسلامية قاعدة من قواعد النظام السياسي في الإسلام تستغرق كل (أمر) المسلمين (وأمرهم شورى بينهم). وقد أُمِرَ بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومَن بَعده من ولاة الأمر، وجعلت سنة ماضية في بناء الدولة، كما في بناء الحياة: التشريعية والسياسية والقضائية على ما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم (أشيروا عليّ أيها الناس) وولاة الرشد من بعده.
وكانت سقيفة بني ساعدة، قاعدة شورية مصغرة تليق بطبيعة العصر وظروفه، وكان خيار (الستة) دون أن يرى عمر في ولده أهلية لمزاحمة أولى السابقة والرضوان من كبار الصحابة، ومارسها عبد الرحمن بن عوف حين رُد إليه الأمر بالطواف على الناس في المدينة حتى ليقول بأنه قد استشار حتى (العواتق في خدورهن) يعني النساء. وقرر علي وهو على فراش الشهادة، وقد ألحّ عليه أصحابه أن يستخلف ابنه (الحسن)، بأن الأمر للمسلمين يختارون لأنفسهم من شاؤوا.
أهداف النظام الإسلامي التي أجملتها أعلاه، فصلها مشروعنا السياسي بشكل يمنعني من التكرار هنا..
ما أود الوصول إليه أن نظام الحكم كما الشريعة والفقه من المرونة بحيث يستوعب كل مستجدات العصور، وهو نظام قابل للتطوير والتعديل والتقويم لأن أكثر من 90% منه اجتهاد بشري محض، غير أن الذي يفرقه عن النظم الأخرى استناده إلى مرجعية مقدسة...
فهو نظام مدني، بمرجعية دينية، السلطان فيه للأمة، وحاكمية الله المطلقة فيه لا تستتبع حاكمية علماء الدين الذين يؤولون كلام الله بالتأكيد، وسيادة القانون تنبع من شرعية هذا القانون في هذه الشريعة، فهو قانون شعبي تختاره الأمة طواعية، وتتحمل كامل تبعاته، وهو في نفس الوقت قانون إلهي لا في مرجعيته العليا فحسب، ولكن في مآله النهائي أيضا! لأنه كما جاء في الحديث: (ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن) فقد شاءت إرادة الله فينا أن تكون مشيئته في خلقه من مشيئتهم في أنفسهم، فما رأوه زين فهو الزينن وما رأوه شين فهو الشينن فهم مستخلفون على هذه الأرض، وشهودهم الحضاري هو صمام الأما، فمن هنا لم تكن الأمة لتجتمع على ضلالة كما جاء في الحديث، ومن هنا أيضا كانت مخالفة رأي الأمة والخروج عن سبيلها صنو شقاق الرسول والكفر بالله! (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى
ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)
نقطة واحدة تستحق التوقف مما قلته في مشاركتك الأصلية وهي أن كل واحد وصل بالوراثة أو النص أو أو!! والحقيقة أنه لا شرعية لواحد من هؤلاء في ما لدينا من فقه إلا ببيعة الأمة للخليفة، فولاية أبي بكر لم تحسمها السقيفة بل بيعة الأمة، وخلافة عمر لم تحسمها توصية أبي بكر بل بيعة الأمة، وخلافة عثمان لم يحسمها شورى الستة بل بيعة الأمة، وخلافة علي والحسن وسائر الأئمة والسلاطين لم تحسمها سوى بيعة الأمة، مع كل ملاحظاتنا وتحفظاتنا على بعض الممارسات.
ويبقى الحديث أوسع مدى مما ذكرناه هنا، ولولا أنني كتبت فيه كثيرا لفصلت هنا، غير أنني أرحب بتقويمك وتعقيبك، وأعتذر إن ند مني سلوك يجرحك
واسلموا لود واحترام(f)