<<العد العكسي>> لاحتلال العراق
.. أم الوقت القاتل؟
لؤي توفيق حسن
تستند السياسات الناجحة للدول، فيما تستند، على قدرة صانعي القرار فيها على تحديد امكانيات أعدائهم ونظرتهم للعالم. وبهذا الصدد يرى المحللون الاستراتيجيون بأن التباينات الثقافية من الاسباب الجوهرية التي تقف وراء التقديرات الخاطئة لردة فعل الخصم.
ولعل هذا يختصر بعض أسباب تخبط أميركا في العراق الذي خالته أو صدقت أنه سيستقبلها كمحرر على غرار ما فعلته اوروبا اواخر الحرب العالمية الثانية.
المهم الآن ان لا نقع في ذات المطب بحيث لا نرى الا (العد العكسي) للغزو الاميركي للعراق دون تقويم نتائجه من جهة ودون تقدير البدائل التي يمكن ان يأخذ بها الجانب الاميركي.
ليس مفيدا الآن البحث في جدوى الحرب الاميركية على الاصوليات. او ما تسميه (ارهابا). فضلا عن الخطيئة في غزو العراق. لكن الثابت أن النابض العراقي المضغوط بقبضة صدام قد استطال الى ساحة للاصوليات بين شيعية تتلمس دورا بارزا للشيعة في قيادة الدولة يتناسب وأكثريتهم العددية. وبين أصولية سنية وجدت مرتعها من احساس العرب السنة بالاحباط حيث منهم كان أهل الحل والربط. وهذا من غير ان ننسى المناخ العام المحفز على نمو التيارات السلفية بالاساس.
وهكذا وجدت اميركا نفسها بين نارين: المقاومة الشرسة في الوسط السني تستنزفها ماديا ومعنويا. والنفوذ الايراني الذي امتد عبر قوى شيعية يربطها بإيران نسيج خميني مشترك. او احيانا مصالح مشتركة تكونت من الاحتضان الايراني لقيادات وكوادر نفاها القمع الصدامي.
الأدهى ان اميركا بعد ضربها لعناصر من معادلة التوازن الاقليمي السائد قبل غزوها للعراق قد أوجدت خللا اصبحت مضطرة لتحمله وتعويضه من ذاتها. وهذا خلق من جهة اخرى واقعا اصبح الوجود الاميركي متداخلا (سيامياً) مع المنطقة حتى بات مطلبا عند العراق الرسمي بتمثيله الشيعي العريض وبداعي اكمال بناء جيش عراقي. ومطلوب من بعض العرب خشية أن يؤدي انسحاب اميركا من العراق الى نشوب حرب أهلية سنية شيعية فتنعكس على استقرار دول الخليج. هذا ومن دون أن ننسى الخشية من قيام (قوس شيعي) من طهران وحتى جنوب لبنان والذي حذر منه صراحة العاهل الاردني.
يتصاحب هذا التداخل بفشل اميركا في تحقيق اي من أهدافها المعلنة: العراق (النموذج) الذي ترغب بتعميمه في بناء (الشرق الاوسط الجديد). ونظرية (تجفيف منابع الارهاب). الذي امتد ليضرب اوروبا وآخر استهدافاته تفجيرات لندن.
حيال هذا المأزق. ومع هذه الادارة بالذات ليس من الصواب توقع ردات فعل بالقياس للسياسات الاميركية السابقة التي تنتمي للمدرسة البراغماتية فيما الحالية يستولدها اجتماع الهوس الايديولوجي مع الاحساس بفائض القوة المتعاظم بأحادية القطب. فضلا عن غياب العقلانية لحساب الجهل أو الغباء أحيانا.
ومع الأغبياء تصبح اللعبة خطيرة!. ولعل ما حدث مع فاليري بلام عقابا لزوجها السفير جوزف ولسون لمعارضته الحرب على العراق مثالا للاستجابات النمطية لهذه الادارة التي تتجاوز الاعتبارات الوطنية والاخلاقية من الوجهة الاميركية فلم تتردد بفضح هوية اميركي يتعامل مع مخابرات بلاده!!.
قياسا على ما سبق فإن الحساسية الاميركية من احتمال الفشل في العراق قد تقودها الى ما تروّج له ب (الفوضى البنّاءة). وهو بالقطع لم يكن هدفا اميركيا فيما كانت راغبة في الامساك بالعراق بقدر ما بات (الخيار صفر). إذا ما انسدت بوجهها السبل او المخارج اللائقة. وهذا ما يجب ان نأخذه بعين الاعتبار. لندرك ان المصطلح (الفوضى البناءة) ليس إلا من احتياطي الاكاذيب التي تحتفظ بها الادارة الاميركية لتستعملها عند الضرورة. وهذه المرة لتغطية الفشل. كما كانت الكذبة الاولى (اسلحة الدمار الشامل) لتغطية الغزو!.
يبقى ان لا يُسكر الفشل الاميركي البعض من أهل القرار. إذا ما عرفنا أن هنالك في واشنطن من يسعى للأخذ بخيار الفوضى وتعميمه ليشمل سوريا. وبدعوى (تقطيع القوس الشيعي) باعتباره يشكل خطرا على إسرائيل بما يجعلها في متناول القوة الضاربة الايرانية. فضلا عما تتيحه الفوضى من تشريع الابواب لتشكيلات إثنية تناسب نظرية الامن الاسرائيلي. ولعل ما يروج له في لبنان من (كونفدرالية طوائف) نواة لها او (بروفه)!. فيما (استقلال) الاقليم الكردي ينتظر انكفاء اميركا عن الوسط والجنوب العراقي ليصبح امرا واقعا وخيارا اميركيا ضروريا كقاعدة متقدمة لقواتها شرقا. وسيجد المدقق أن (الفوضى) هدف تتقاطع عنده اكثر من جهة شرق اوسطية غير عربية ما يجعل من الرهان على نهاية (العد العكسي) للاحتلال الاميركي لتحقيق الفرج كالرهان على دواء يقتل المرض من غير النظر في قتله للمريض!.
لا سبيل الى الخلاص مع هذا التبسيط (القدري) ولا مخرج انقاذي لا يبدأ من ملاقاة الورطة الاميركية قبل وصولها الى حافة (الخيار صفر). ما يطرح أهمية جسر حواري بين السلطة العراقية والمقاومة (السنية).
وبات توقيته مناسبا الآن لا سيما بعد ان اصبح مطلبا اميركيا. وهو لكي يحقق أغراضه محكوم بممرين اثنين:
الاول العزل التدريجي لعناصر (القاعدة) عن جسم المقاومة الثاني الانخراط في مؤتمر وطني على قاعدة التوصيات المنبثقة عن (مؤتمر أربيل للمصالحة) في آذار العام المنصرم.
هذا الحوار يحتاج الى جهد عربي وسوريا في طليعته ومشاركة من تركيا وإيران.. ولكن بعد ان تعيد هذه الاخيرة صياغة بعض استراتيجياتها بحيث لا يكون العراق ساحة لتلقي الصدمات او خطا دفاعيا عنها. بل نموذجا لتقاطع سني شيعي على قاعدة اسلامية منفتحة. وإلا فإن أي بديل سيعزل مع الوقت إيران المحاطة ببحر سني وسيستنزفها ويعزل قيم ثورتها الاسلامية أيضا.
هذا الحوار يجب ان يصبح مهمة مستعجلة وضرورية لعبور الوقت القاتل بين رحيل هذه الادارة الفاشلة والمكابرة. وبين استرداد اميركا بخياراتها وخططها وهذا ليس افتراضا بقدر ما هو حاجة اميركية تشغل نخبها منذ زمن.
() كاتب لبناني
http://www.assafir.com/iso/today/opinion/6.html