الإسلام الحضاري في ماليزيا..ما بين الحقيقة والوهم
بقلم هشام محمد Jul 26, 2010
يظن الكثيرون أن ماليزيا هي آخر ما تبقى من تراب الأرض، والتي مازال الإسلام فيها على عهده القديم صافياً ونقياً. إسلام لا تثخنه جراح الطائفية، ولا تذروه اعاصير الفتاوى، ولا تشوهه سوء طباع المسلمين وتدهور أخلاقهم. يلوح الكثيرون بماليزيا كورقة اثبات على فعالية الإسلام في مد جسور التواصل والتعايش، وقدرته على استنهاض روح الابداع ودفع حركة التعليم والتطور، ومكانته في بناء مجتمع على أسس ودعائم أخلاقية متينة.
قد ينطوي هذا الإدعاء على قدر معقول من الصحة، ولكنه لا يخلو بدوره من شيء من الجهل بالمكونات الديموغرافية للمجتمع الماليزي وخصائصه الأثنية.
إذا سنحت لك الفرصة بالقراءة عن هذه البلاد أو بالسفر إليها، فسوف تكتشف وبلا عناء أن نصف الشعب هم من الملاويين، وهؤلاء على دين الإسلام، وأما الباقي فيتوزع ما بين الصينين والهنود، وهؤلاء في الأغلب إما بوذيين أوهندوس. يقبض الملاويون – بحكم أغلبيتهم – على مقاليد السياسة والحكم، فيما ينهمك الصينيون والهنود في تدوير عجلة البلاد الاقتصادية والتجارية. إن من يقرأ أكثر عن البناء الفسيفسائي لدولة ماليزيا سيجد أن العلاقات التحتية بين الملاويين من جهة والهنود والصينين من جهة أخرى ليست حقيقة على ما يرام. هناك شعور من الكراهية المتبادل بين الطرفين، مشاعر مازالت تعتمل في الصدور دون ان تطفو على السطح. يشعر الملاويون بشيء من الضغينة تجاه الإثنيات الصينية والهندية بسبب قبضتهم على مفاصل البلاد الحيوية، وربما للتباين الديني وما يفرزه من مشاعر استعلائية. لقد حدثني ذات مرة أحد العارفين ببواطن المجتمع الماليزي أن الرئيس السابق مهاتير محمد كان حريصاً في بناء مشروعه القومي العملاق الإسلام الحضاري (ماليزيا 2020) على دمج الأكثرية الملاوية المعروفة بخمولها وبلادتها. يكمل لي هذا الرجل قوله بأن مهاتير كان يلتفت إلى الصينيين والهنود قائلا لهم: "لماذا تخافون؟ إن بث الروح في تلك الأجساد الكسولة يجب أن يفرحكم لا أن يخيفكم. يجب أن يشعروا بإنهم يملكون شيئاً على أرضهم وإلا فسوف يذبحونكم كالخراف بعد أن ينهبوا ما في ايديكم من خيرات".
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني بوضوح أن ما قطعته ماليزيا من اشواط بعيدة في مجالات التنمية والتحديث لا يجب أن يجير إلى الإسلام. إن التصفيق والإشادات يجب أن تذهب إلى الصًناع الحقيقين لتلك الوثبة الحضارية، إلى أولئك الواقفين والجالسين وراء مكائنهم وحواسيبهم، وإلى صانعي القرارات السياسية الحكيمة، وليس لأولئك الذين يجرجرون أقدامهم جراً وينهمكون في القيام بطقوس دينية! لكن هذا لا يعني نكران ما وفره الإسلام، بوعي من مسيري البلاد، من مناخات تسامحية أسهمت في انعاش بيئة مهيئة لشحذ طاقات البلاد وتعبئتها في مواصلة تحليقها الحضاري، بدلاً من استنزافها في معارك طائفية ومشاحنات مذهبية كانت ستذهب بريح البلاد، وتدرجها في مصاف أخواتها البائسات من الدول العربية والإسلامية.
بالنسبة لي، فقد سبق لي زيارة تلك البلاد مرتين، كان أخرها قبل خمسة أعوام. وكما خمنت في البداية، فالملاوية على قدر عال من التدين والالتزام الحرفي بالأوامر والنواهي الدينية. الفتيات هناك حريصات جداً على ارتداء الحجاب، والرجال حريصون على أداء الصلوات وخاصة الجمعة. وإلى جانب حالة التدين العميق التي تكسو ملامح الناس هناك، فالمسلمون لا تظهر عليهم نوازع ومؤشرات العنف التي تظهر على أخوتهم في الدين في بؤر ساخنة كالباكستان او افغانستان. إنها – في رأيي – طبيعة البلاد الزراعية وما تصبغه على قاطنيها من ميل فطري للموداعة والسلم. غير أني شعرت وكأن أهلها من المسلمين قد توارثوا القيام بممارسات يومية لطقوس دينية دون إدراك حقيقي لفحواها. يكفي أن يقال لهم هذا ما كان يفعله النبي واصحابه ليحل لديهم منزلة مقدسة. إضافة إلى ذلك، تشعر أن هناك احتفاء مبالغاً فيه بالزائر القادم من بلاد الحرمين، كما لو كانوا يشمون فيه بعضاَ من رائحة النبي محمد. ربما اسهم هذا الانبهار بالقادمين من هناك في ولادة فرق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك في ماليزيا. اعضاء تلك الجماعات لا يقلون عنفا وانشغالا بالتفاهات الصغيرة واقتحاما للمسائل الشخصية نظرائهم و"اساتذتهم" في السعودية!
المضحك أن هذا العصاب الديني وجد تعبيراً لها من خلال بعض المخترعات والمنتجات الماليزية. فقد قرأت قبل مدة ليست بالبعيدة عن سيارة إسلامية (لاحظ هذه التسمية) تعتزم شركة بروتون الماليزية تصميمها لكي تتلائم مع شخصية المسلم! لا تدع خيالاتك تجرفك بعيداً في تصور ماهية تلك السيارة. إنها لا تعتمر الحجاب أو البرقع أو النقاب أو أي من وسائل التخفي..ولا هي من النوع الذي ينفجر في أقرب حشد من الكفار..ولا هي كذلك بالتي تملأ وقت انتظارها أمام إشارات المرور بالتسبيح. كل ما في الأمر أنها مزودة ببوصلة تشير إلى مكة المكرمة وبمكان مخصص لحفظ القرآن الكريم! ياله حقاً من اختراع مدوي يستحق التكبير والتهليل! اتمنى في المستقبل القريب أن نرى جيلاً جديداً من سيارات ماليزية يراعي فيه بشكل أكبر خصوصيتنا الدينية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، نريد سيارة يخصص جزئها الأمامي للعزاب والخلفي للعوائل، أو أن يتم تزويدها بأجهزة استشعار الحجاب للنساء واللحى للرجال، وحبذا لو أنها قدمت الإطار الأيمن على الأيسر عند النزول إلى الطريق! يذكرني هذا الإختراع "المدهش" بزمزم كولا، وعروسة الأطفال المحجبة السمراء فله، وبكتب هزيلة بعناوين مضحكة كالاقتصاد في الإسلام، والاعلام في الإسلام، والبيئة في الإسلام، وما إلى ذلك من ضحك على الذقون. ولكن لما لا؟ لدينا ملايين من البشر على اتم الاستعداد لشراء الوهم وتصديق الأكاذيب لتعويضها عن مشاعرها المريرة بالإخفاق والفشل الذريع تجاه الشعوب والأمم الأخرى.
اللهث الماليزي وراء أسلمة كل شيء تجاوز هذه المرة المنتجات الصناعية والبنكية (تشتهر ماليزيا بريادتها في إصدار أدوات الدين الإسلامية) إلى أسلمة برامج تلفزيون الواقع. فقد قرأت في جريدة الوطن السعودية بتاريخ 17 يوليو من هذا العام عن فكرة برنامج غير مسبوقة، اسمه الإمام الشاب. البرنامج يشبه في أسلوبه البرامج الترفيهية الشبابية الشهيرة كسوبر ستار وستار أكاديمي. إلا أن الفارق الجوهري بينهما أن الإمام الشاب يبحث عن مرضاة لله ورسوله، بينما الأخرى المستوردة تبحث عن معصية لله ورسوله. الإمام الشاب يزرع القيم الدينية السمحاء، بينما الأخرى الشيطانية تنزع تلك القيم الدينية. يضم البرنامج عشرة متنافسين ممن تظهر عليهم علامات الورع والتقى، ويتم اقصاء متنافس واحد بمعدل كل أسبوع، فيما ينال الفائز سيارة (ربما تكون تلك الإسلامية) وحاسب آلي محمول وتذكرة سفر إلى مكة المكرمة ومنحة دراسية في جامعة المدينة المنورة بالسعودية! يتم المفاضلة بين المتنافسين على ما يحفظه المتنافس من كتاب الله وعلى قدرته على غسل وتكفين الميت!!! أنا لا امزح. يمكنك الرجوع إلى المصدر المذكور أو البحث عنه في موقع غوغل مثلاً. يعلق عضو هيئة التحكيم الذي كان يشغل في السابق منصب الإمام الأكبر للمسجد الماليزي في كوالامبور بالقول أن رسالة البرنامج تستهدف محاربة الأمراض الاجتماعية بين الشبان المسلمين الماليزيين! لا أفهم مدى الصلة بين حفظ القرآن وتغسيل الموتى وبين مكافحة الأمراض الاجتماعية! من يملك منكم الإجابة على هذا السؤال فليخبرني وله الأجر والثواب من عند الله.
إن حفظ القرآن لا يعني زوال البقع السوداء من القلب ولا طهارة الروح من الأردان والرذائل. الكثير من نزلاء السجون والمتشددين والإرهابيين يحفظون القرآن ظهراً عن قلب. ما حال حفظهم له من حفظهم عن الولوغ في دماء الأبرياء وارتكاب القبائح. أحياناً تكون بعض الآيات، خاصة آيات القتال، إذا ما انتزعت من سياقاتها التاريخية محفزة لصاحبها على ارتكاب الشرور وترويع الآمنين باسم نصرة الله ورسوله. إن من يقول أن القرآن هو البلسم الشافي لأمراض المجتمع ومثالبه فليتفضل علينا بذكر عدد ونسبة الآيات الداعية إلى مكارم الأخلاق إلى الإجمالي الكلي لآيات القرآن!
إذا تقبلنا ولو على مضض الدور العلاجي والتطهيري للقرآن في علاقته بالمجتمع، فإننا لا نكاد نجد أي مسوغ لتغسيل الموتى وتكفينهم. كنت احسب أن الموت لا ينبت إلا في صحراء ثقافتنا الدينية المحلية، ولم احسب أن قطوفه قد اينعت هناك في ماليزيا. اغلب الظن أننا صدرنا إليها تلك الثقافة الجنائزية، بعدما صدرنا لها جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن تغسيل الموتى وتكفينهم يعد من أدوات التخويف والترهيب التي ابتدعها التيار الصحوي في السعودية. إن تخصيص الأنشطة اللاصفية في تكفين الميت أو مفاجأة الطلاب في الطابور الصباحي بنعش محمول قد صار من المشاهدات غير المستغربة رغم اعتراض وزارة التربية والتعليم. أما لماذا يحرص الصحويون على مثل تلك الممارسات المخيفة، فيتلخص الجواب في اقتلاع حب الدنيا والإقبال على الحياة من نفوس النشء، وغرس بذور الكراهية واليأس من الحياة تمهيداً لتحويلهم إلى عجينة يمكن تشكيلها لخدمة مصالح هذه الجماعة.
قصارى القول، أن النهضة الحضارية لماليزيا لن تتحقق إلا بعرق وجهد وكد العناصر غير المسلمة، وكذلك بتبني القيادة السياسية المسلمة لنظام علماني ديموقراطي يقوم على احترام المواطنة والمساواة بين مكونات المجتمع الغني بتنوعه. لا يعني هذا بالطبع أن الأكثرية المالاوية لن تكون لها اسهامات ايجابية في الدفع بالبلاد للأمام نحو مصاف الدول المتقدمة، لكن هذا لن يتحقق بوجود شرطة دينية تتشمم بنهم رائحة الخمر والأجساد العارية، ولا بنماذج سلبية ناقمة على الحياة كما في برنامج الإمام المسلم. ختاماً، أرجوا من القلب أن يأتي اليوم الذي تقف فيه ماليزيا جنباً إلى دول ناجحة ومرموقة كاليابان وكوريا الجنوبية والصين، لا أن تقف بجوار دول محطمة ومنهكة كغالبية الدول الإسلامية.
http://www.annaqed.com/ar/content/show.aspx?aid=16328