{myadvertisements[zone_1]}
خطاب البابا في جامعة "ريجينسبيرغ"
ابن العرب غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,526
الانضمام: May 2002
مشاركة: #50
خطاب البابا في جامعة "ريجينسبيرغ"
القسم الثاني (من الترجمة العربية):



كان اللاهوت الليبرالي في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين بداية طور جديد في مسار تجريد المسيحية من طابعها الإغريقي. وكان "أدولف فون هارناك" Adolf von Harnack أبرز ممثلي هذا التوجّه. حينما كنت طالباً، وفي أولى مراحل تعليمي، كان هذا البرنامج بالغ التأثير في اللاهوت الكاثوليكي كذلك. وكان ينطلق من تمييز "باسكال" بين "الله الفلاسفة" و"الله إبراهيم، وإسحق ويعقوب". وقد حاولت أن أتطرّق إلى هذه المسألة في خطابي الإفتتاحي في بون في العام 1959. ولن أكرّر الآن ما قلته في تلك المناسبة، ولكن سأكتفي بوصف موجز لما كان جديداً في طور نزع الطابع الإغريقي هذا. كانت فكرة "هارناك" المركزية هي العودة إلى المسيح الإنسان وطبيعته البسيطة، الموجودة تحت قشور اللاهوت بل وتحت الطابع الإغريقي. واعتُبِرَت هذه الرسالة البسيطة ذروة التطوّر الديني للإنسانية. وقيلَ أن المسيح وضع حداً للعبادة وأحل الأخلاق محلّها. وفي النهاية، بات المسيح يُصَوَّر وكأنه أب الرسالة الأخلاقية الإنسانية. وكان الهدف الأساسي من ذلك هو تحقيق الإنسجام بين المسيحية والعقل الحديث، أي تحريرها مما اعتُبِرَ عناصر فلسفية ولاهوتية، مثل الإيمان بألوهية المسيح والثالوث الأقدس. بهذا المعنى، فإن التأويل التاريخي النقدي للعهد الجديد أعاد إلى اللاهوت مكانته في الجامعة: فاللاهوت، بنظر "هارناك" تاريخي أساساً، وبالتالي فإنه علمي محض. وما يمكن للاهوت أن يقوله بصورة نقدية حول يسوع هو تعبير عن الفكر العملي، وبناءً عليه يمكن أن يجد مكانه المناسب في الجامعة. خلف هذا التفكير، يكمن التحديد الذاتي الحديث للعقل، الذي عبّر عنه "كانط" بصورة كلاسيكية في "نقدياته" (Critiques) ، ولكن، في الوقت نفسه، بعد تجذيره بفعل تأثير العلوم الطبيعية. وإذا أردنا الإيجاز، فإن هذا المفهوم الحديث للمنطق يقوم على توليف بين الأفلاطونية (الديكارتية) و"التجريبية" (empiricism)، وهذا التوليف يستند إلى نجاحات التكنولوجيا. ومن جهة، فهو يفترض مسبقاً التركيب الرياضي للمادة، أي عقلانيتها الذاتية، الأمر الذي يتيح لنا أن نفهم كيفية عمل المادة، وأن نستخدمها بكفاءة: ويمكننا القول بأن هذه المقدّمة المنطقية تمثّل العنصر الأفلاطوني في الفهم الحديث للطبيعة. ومن جهة أخرى، هنالك إستعداد الطبيعة للإستغلال خدمةً لأغراضنا، وفي هذا الإطار فالإختبار وحده يسمح بالتحقّق من صحة الفرضيات أو خطأها. وتبعاً للظروف، يمكن أن ينتقل الثقل من أحد القطبين إلى الآخر. إن مفكّراً "وضعياً" (positivist) جداً مثل ج. مونو (J. Monod) قد اعتبر نفسه أفلاطونياً/ديكارتياً.



إن ما سبق يقود إلى مبدأين حاسمين بالنسبة للقضية التي نحن بصددها. أولا، وحده اليقين الناجم عن تداخل العناصر الرياضية والتجريبية يمكن أن يُعتَبَر علمياً. وكل ما يزعم لنفسه صفة العلم ينبغي أن يُقاس بموجب هذا المعيار. وذلك هو السبب في أن العلوم الإنسانية، مثل التاريخ، وعلم النفس، وعلم الإجتماع، والفلسفة، تسعى للتوافق مع معيار العلمية. والنقطة الثانية، ذات الأهمية لتأملاتنا هذه، هي أن هذه الطريقة، بحكم طبيعتها نفسها، تستبعد مسألة الله، وتجعلها تبدو كمسألة غير علمية أو سابقة على العلم. بناءً عليه، فإننا نجد أنفسنا بإزاء تصغيرٍ لشُعاع العلم والعقل، وهذه مسألة قابلة للنقاش.



سنعود إلى هذا الموضوع لاحقا. في هذه الأثناء، تجدر ملاحظة أنه من وجهة النظر هذه فإن محاولات اللاهوت لإضفاء طابع "علمي" على نفسه تجعله ينحسر إلى مجرّد جزء صغير من ذاته السابقة. لكن، ينبغي أن نمضي إلى أبعد من ذلك: أن الإنسان نفسه هو الذي يتعرّض للإختزال، لأن الإسئلة الإنسانية تحديداً حول أصلنا ومصيرنا، أي الأسئلة التي يطرحها الدين وعلم الأخلاق، ستفقد في هذه الحالة مكانها ضمن حدود العقل الجماعي كما يعرّفه العلم، ويغدو لا مفرّ من نفيها إلى عالم "الذاتي" (subjective). في هذه الحالة، يقرّر الشخص، بناءً على تجاربه الشخصية، ما يعتبره معقولاً في المسائل الدينية، ويغدو "الضمير" الذاتي الحَكَم الوحيد في ما يمكن إعتباره أخلاقياً. وعلى هذا النحو، يفقد علم الأخلاق، والدين، قدرتهما على تشكيل "جماعة" (community) يتحوّلان إلى موضوع شخصي بحت. يمثّل ذلك وضعاً خطراً على الإنسانية، كما نرى من العوارض المرَضية المثيرة للقلق التي تنتاب الدين والعقل بالضرورة حينما ينحسر العقل إلى درجة أن لا يعود معنيّاً بأمور الدين وعلم الأخلاق. وببساطة، فكل محاولات بناء علم أخلاقي إنطلاقاً من قواعد التطوّر أو من علم النفس وعلم الإجتماع، تنتهي إلى حصيلة غير مناسبة.



قبل أن أصل إلى الخلاصة المقصودة من كل هذه المقدّمات، سأتناول بإيجاز الطور الثالث في عملية تجريد المسيحية من طابعها الإغريقي، وهي المرحلة التي نعيشها حالياً. في ضوء تجربتنا (الحالية) مع التعدّدية الثقافية، غالباً ما نسمع دعوات إلى اعتبار التوليف مع الإغريقية الذي تحقّق في عهد الكنيسة الأولى مجرّد عملية تلاقح بدائي لا ينبغي اعتبارها ملزمة للثقافات الأخرى. ويٌُقال أن هذه الثقافات الأخرى تتمتّع بالحق في العودة إلى الرسالة البسيطة التي حملها العهد الجديد قبل أن تحصل عملية التلاقح هذه، بُغية القيام بعملية تلاقح جديدة في البيئة الخاصة بهذه الثقافات الأخرى. هذه المقولة ليست خاطئة فحسب، بل إنها خشنة وبعيدة عن الدقّة. فـ"العهد الجديد" كُتِبَ باليونانية ويحمل طابع الروح الإغريقية، التي كانت بلغت درجة النضوج مع تطوّر العهد القديم. حقاً أن هنالك عناصر في بدايات تطوّر الكنيسة لا ينبغي إدماجها في الثقافات الأخرى. ولكن القرارات الأساسية في ما يتعلق بالعلاقة بين الإيمان وبين استخدام العقل الإنساني كجزء من الإيمان نفسه، تمثّل تطوّرات متناغمة مع طبيعة الإيمان نفسها.



وهنا أصل إلى الخاتمة التي سعيت إليها في هذه المحاضرة. إن هذه المحاولة، بخطوط عريضة، لنقد العقل الحديث من داخله لا تمتّ بصلة إلى أي مسعى لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل "عصر الأنوار" أو لنبذ المعارف التي وفّرها لنا العصر الحديث. ينبغي الإقرار بالجوانب الإيجابية للحداثة بدون تحفّظ: وجميعنا نشعر بالإمتنان للإمكانات الرائعة التي انفتحت أمام الإنسانية وللتقدّم في الإنسانية الذي أعطي لنا. علاوة على أن الروح اعملية تمثّل إرادة الإلتزام بالحقيقة، مما يعني أنها تجسّد منحى يعكس واحدة من أبرز سمات المسيحية. إن قصدنا هنا ليس التقوقع أو النقد السلبي، وإنما توسيع مفهومنا للعقل ولاستخدامه. فمقابل اغتباطنا بالإمكانات الجديدة المفتوحة للإنسانية، فإننا نلحظ كذلك الأخطار الناجمة عن هذه الإمكانات نفسها، ويتوجّب علينا أن نسائل أنفسنا حول كيفية التغلّب عليها. لن ننجح في تحقيق ذلك إلا إذا تضافر العقل والإيمان بطريقة جديدة، وإذا ما تغلّبنا على التحديد الذاتي للعقل لكي يقتصر على ما هو تجريبي وقابل للإختبار، وإذا ما كشفنا، من جديد، الآفاق الشاسعة للعقل. بهذا المعنى، يصح القول أن اللاهوت ينتمي إلى الجامعة ويندرج ضمن الحوار الواسع النطاق للعلوم، ليس كمجرّد علم تاريخي أو كواحد من العلوم الإنسانية، بل- تحديداً- بصفته لاهوتا، أي بحثاً في عقلانية الإيمان.



على هذا النحو، فحسب، نصبح قادرين على القيام بحوار الحضارات وحوار الأديان الذي تمسّ الحاجة إليه اليوم. في العالم الغربي، يسود إعتقاد بأن العقل الوضعي وحده، والفلسفة التي تستند إليه، يصحّان على مستوى العالم. يصلحان في جميع الأمكنة والأزمنة بدون استثناء. ولكن الثقافات ذات الطابع الديني العميق ترى في هذا الإستبعاد للمقدّس من شمولية العقل هجوماً على معتقداتها الأكثر عمقاً. إن عقلاً يعجز عن الإنصات للمقدّس ويحيل الدين إلى مجرّد شبه ثقافة، هو عقل عاجز عن الدخول في حوار الثقافات. في الوقت نفسه، كما حاولت أن أبيّن، فالعقل العلمي الحديث بعنصره الأفلاطوني ، يحمل ضمنياً سؤالاً يشير إلى أبعد من ذاته وإلى ما يتجاوز إمكانات منهجيّته. وببساطة، فإن على العقل العلمي الحديث أن يقبل- كمُعطى ينبغي أن تستند منهجيّته إليه- بالتركيب العقلاني للمادة وبالتناسب بين روحنا وبين البنى العقلانية للطبيعة. إن السؤال حول السبب في وجوب القبول بما سبق يظل سؤالاً حقيقياً، سؤالاً ينبغي على العلوم الطبيعية أن تحيله إلى إنماط ومجالات تفكير أخرى- أي، إلى الفلسفة واللاهوت تحديداً. فبالنسبة للفلسفة، وكذلك ولو بطريقة مختلفة، بالنسبة للاهوت، فإن الإنصات إلى التجارب والمعارف العظيمة للتراثات الدينية للإنسانية، وللإيمان المسيحي بصورة خاصة، يمثل مصدراً للمعرفة لا ينجم عن تجاهله سوى الحدّ بصورة غير مقبولة من قدرتنا على الإنصات وعلى الإستجابة. هنا أتذكّر ما قاله سقراط لـ"فايدو". فبعد أن طرحت الكثير من الآراء الفلسفية الخاطئة في محادثاتهما الأولى، قال سقراط: "سيكون مفهوماً جداً إذا ما انزعج البعض من كل هذه الأفكار الخاطئة إلى حد يدفعه، طوال حياته، لاحتقار أي حديث عن الوجود، وللسخرية منه- ولكن مثل هذا الموقف سيحرمه من (معرفة) حقيقة الوجود، وسيكبّده خسارة فادحة". لقد تعرّض الغرب طويلا للخطر بسبب هذا النفور من الخوض في المسائل التي تقوم عليها عقلانيته، وهو يمكن أن يتعرَّض لخطر عظيم من هذا النفور اليوم. إن شجاعة الخوض في العقل بكل اتساعه، عوضاً عن نفي عظمته- ذلك هو البرنامج الذي يمكن للاهوت المؤسًّس على الإيمان الإنجيلي أن يقتحم به نقاشات عصرنا. "إن عدم العمل بموجب "العقل" (logos) يتعارض مع طبيعة الله"، كما قال مانويل الثاني، وفقاً لفهم مسيحي لله، رداً على محاوره الفارسي. إلى هذا "العقل" العظيم، إلى سعة العقل هذه، ندعو شركاءنا في حوار الثقافات. إن إعادة اكتشافه باستمرار هو المهمة العظيمة للجامعة.



* حسب قاموس "المورد" فإن "السكولاستية: الفلسفة النصرانية السائدة في القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة، وقد بُنِيَت على منطق أرسطو ومفهومه لما وراء الطبيعة ولكنها اتسمت في أوروبا الغربية خاصة، بإخضاع الفلسفة للاهوت ومن أبرز رجالها توما الأكويني الذي حاول أن يقيم صلة عقلانية بين العقل والدين"

09-20-2006, 10:16 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
خطاب البابا في جامعة "ريجينسبيرغ" - بواسطة ابن العرب - 09-20-2006, 10:16 AM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  البابا شنودة اخر بطريرك عالارض .. وهيسلم الكنيسة للمسيح على نور الله 17 4,437 11-02-2011, 12:00 PM
آخر رد: عبدالله بن محمد بن ابراهيم
  ما "اختلسه" القران من الكتاب المقدس لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة 89 26,888 10-23-2011, 12:11 AM
آخر رد: لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة
  سقوط رواية سن السيدة عائشة "زواجها والبناء بها" بالضربة القاضية zaidgalal 315 89,235 10-24-2010, 08:37 PM
آخر رد: طريف سردست
  البابا شنودة : يعقوب هزم الرب !! كميل 12 5,000 04-19-2010, 02:52 PM
آخر رد: ABDELMESSIH67
  البابا شنودة خالد مخلد wahidkamel 14 3,577 11-18-2009, 07:31 AM
آخر رد: اسحق

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 28 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS