الزميل المحترم philalethist

اسمح لي أن أشرح بعض الأمور التي تسأل عنها حضرتك ...

نحن المسلمون ، عندنا منهج لتقبل الأخبار ، فكل خبر في هذه الدنيا يحتمل الصدق والكذب والصحيح والضعيف ، ولمعرفة صحة الخبر من ضعفه ، وضع علماؤنا مناهج دقيقة لفحصه ومن ثم التأكد من صحته أو ضعفه ..

وسواء كان هذا الخبر في سيرة ابن هشام أوفي باقي كتب السير أو في كتب التاريخ أو الحديث أو التفسير أو الفقه أو غيرها ، فيجب أن يخضع للفحص والتمحيص .

وهذا المنهج هو فحص السند ..
والسند هو سلسلة الرواة الذين رووا الخبر ..

فحتى نعرف صحة الخبر يجب علينا أن ننظر في ناقله ، من هو الناقل ، وكيف عرف ذلك ؟؟؟

فليس المسألة مسألة تصديق أعمى ، بل يجب إعمال العقل وتوظيفه للتحقق من الأخبار ..

فابن هشام توفي سنة 218 هجرية ، فكيف عرف النسب بين عدنان وآدم ، وبينه وبينهم آلاف السنين ؟؟؟ فهذا الذي يجب التحقق منه ..

سيرة ابن هشام هي اختصار "المغازي" لمحمد بن إسحاق ، وهي ما حدثه به زياد بن عبد الله البكائي عنه ..

فابن هشام سمع من زياد ، وزياد سمع من ابن إسحاق ، ، فيعود الخبر كلّه على ابن إسحاق ...
وهنا يأتي مجدداً السؤال "كيف عرف ابن إسحاق النسب من عدنان إلى إسماعيل إلى آدم عليهم السلام وبينه وبينهم آلاف السنين ؟؟؟؟

فالخبر من جهتهم ضعيف ، فلذلك نحن لا نسلم بصحته ...

مثل لو قلت لنا أنت ، إن الإسكندر المقدوني كان لا يحب لحم الضأن ...
فأنت تنقل لنا خبراً ، فنطرح السؤال ، كيف عرفت ذلك وبينك وبين الإسكندر أجيال وأجيال ؟؟؟

فخبرك لا نسلم بصحته لانعدام التوثيق .

وهكذا كل خبر ، يجب أن نطرح السؤال من أين عرف راوي الخبر ..

لذلك في علوم الحديث عند المسلمين ، لا يُقبل حديثٌ إلا أن يكون صحيحاً ، وتعريف الحديث الصحيح عند المحدثين هو ما نقله العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة .

ما معنى هذا الكلام ؟؟؟
العدل : هو من كان معروفا بالتقوى والورع والصدق .

ولكن العدل وحده لا يكفي ، فيجب أن يقترن معه الحفظ ، فربّ من هو تقي ورع معروف بالصدق ولكن كان سيء الحفظ ، فوجب أن يقترن معه الضبط ، وهو أن يضبط الراوي ما حفظه ، ولا يخلط به .

ثم يجب أن يكون كل راو قد سمع من هو قبله ، فلو أن الراوي الفلاني حدث عن فلان و ثبت أنه لم يسمع منه ، فيرد الخبر ولا يقبل ، وهذا ما يسمى باتصال السند .


أضرب لك مثالاً :

قال البخاري : ‏ ‏حدثنا ‏ ‏عبد الله بن مسلمة ‏ ‏رضي الله عنه ‏ ‏أنه قال ‏
(( ‏رأيت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وحانت صلاة العصر فالتمس الوضوء فلم يجدوه فأتي رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بوضوء فوضع رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يده في ذلك الإناء فأمر الناس أن يتوضئوا منه ‏ ‏فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم )) .


البخاري هنا يروي خبراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنسأل كيف عرف البخاري هذا لكلام ، والبخاري ولد بعد وفاة النبي بعشرات السنين ؟؟؟

الجواب : البخاري عرف ذلك من عبد الله بن مسلمة ، فيعود السؤال مرة أخرى : من أين عرف عبد الله بن مسلمة ؟؟

الجواب : سمعه من مالك ، ومن أين عرف مالك ؟؟؟

الجواب سمعه من اسحاق بن عبد الله ، ومن أين عرف اسحاق ؟؟؟
الجواب من أنس بن مالك الصحابي ، وأنس هو صحابي رأى الرسول وعاصره وصحبه كثيراً .

الآن عرفنا كيف عرف البخاري ، وذلك من خلال سلسلة الرواة .

ولكن هل هذا يكفي ؟؟
لا ، يجب معرفة عدالة وضبط الرواة ، فلو ثبت أن أحد الرواة كان ضعيفاً في الحفظ ، أو كان كذاباً ، فلا يقبل الحديث ، بل يرد ويحكم على سنده بالضعف .



ثم يجب أن يكون السند متصلاً ، فلو أن اسحاق بن عبد الله لم يسمع من أنس ، كأن يكون مثلاً مولد اسحاق بعد وفاة أنس ، فعندها لا يقبل هذا السند بل يحكم عليه بالضعف ، وذلك بسبب جهل الكيفية التي عرف بها اسحاق هذا الخبر .

هذا بالإضافة إلى إعتبارات أخرى ، وما هذه إلا نبذه يسيرة لتوضيح منهج المسلمين في قبول الخبر .

فهنا نعود لابن هشام الذي يروي عن ابن اسحاق ، لنعرف كيف أن خبر الأخير لم يكن موثقاً بالسند المتصل ، بل هو يروي خبراً يبعد عن زمانه آلاف السنين دون أن يذكر الكيفية التي عرف بها .

أكتفي بهذا ، لأسمع منك ، فإن كان يحتاج إلى بعض التوضيح فأنا مستعد قبل أن ننتقل لسؤالك عن سبب وجود أخبار لا تصح في سيرة ابن هشام وغير ذلك من الكتب الإسلامية .


تحيـــــــــــــاتي واحترامي

العميد