أخي الفاضل لبناني، حفظه الله و أعزه:
قرأت ردك و أعجبني ما طرحت فيه من نقاط حيث نتفق في قسط منها و القسط الآخر لا نتفق. رأيتك يا عزيزي تنفي ما قلته فتقول:
اقتباس:اولا لم يتأخر محمد حتى السنة العاشرة من بدء دعوته ليأتي على ذكر المسيح,
و تعليلك في هذا هو الآتي:
اقتباس:فالهجرة الى الحبشة المسيحية جرت عام 615 بعد خمسة سنين من بدء الدعوة, وتميزت هذه الفترة(بين بدء الدعوة والهجرة الى الحبشة) بطغيان التأثير المسيحي فيها , فهذا العهد الأول كما سماه الأب الحداد هو عهد مسيحي بأمتياز, حيث تميز هذا العهد بالدعوة بالموعظة الحسنة وهذه دعوة مسيحية, والدعوة الاخلاقية في الاصلاح الاجتماعي هي دعوة مسيحية ,و تميز هذا العهد ايضابالدعوة ليوم الدين و هي دعوة مسيحية ومفردات وتعابير يوم الدين القرآنية كلها مفردات وتعابير انجيلية,
و لي هنا وقفة أو وقفات إن شئت، أخي المكرّم.
يهمني الدقة التاريخية فيما يختص تلك النقطة الرئيسية و هي عن متى جاء محمد على ذكر المسيح تحديدا، بلفظه هو لا من تبعوه أو فيما يعتقدون، في قرآنه. و بدراسة تتبع التسلسل الزمني نجد أن أول ذكر لمسيح النصارى في القرآن لم يحدث سوى في السنة العاشرة من بعثته. لا يجزم التاريخ بخلاف ذلك يا أخي العزيز. لا يهمني مدى بلوغ التأثيرات النصرانية في أنفسهم قبل السنة العاشرة و لا يهمني سماحة النجاشي معهم و لا يهمني احتكاكه بأديرة النصارى المتبتلين و لا يهمني أن ورقة أو خديجة لهم ارتباطات نصرانية. كل هذا لا يعني كثيرا أو قليلا أمام السؤال الرئيسي: متى جاء محمد على ذكر المسيح في قرآنه؟ و الجواب هو أن هذا لم يحدث قبل السنة العاشرة من بعثته. ما سبق ذلك فكل كلامه كان عن التوحيد الخالص كما تشهد له بذلك التوارة و عقائد الحنفاء وقتئذ.
أحب أن ألفت نظرك في محبة يا صديقي إلى أن لفظ "يوم الدين" ليس مسيحي بالمرة و لكنه لفظ عبراني يهودي صرف حيث يقولون "يوم ها دين" Yom Ha Din أي يوم القضاء.
تقول لي إن يوم الدين هي دعوة مسيحية و الحقيقة أن دعوة المسيحية الرئيسية هي "ملكوت الله" و ليس يوم الدين. هكذا بدأ يوحنا المعمدان و هكذا بدأ المسيح: توبوا لأنه اقترب ملكوت الله. و ملكوت الله ليس بالضرورة مرتبط بأحداث اليوم الأخير بدليل أن المؤمن المسيحي يصلي يوميا في الصلاة الربّية: "ليـأت ملكوتك"؛ فهو يصلي لحضور الله في حياته يوميا ليملك في حياته من يوم إلى يوم، و بهذا يكون قد جاء "ملكوت الله".
أيا كانت التعابير و المصطلحات المسيحية فقد تناسى أبونا جوزف قزي دور التسلسل التاريخي في مجيء اسم المسيح في القرآن و فرح بالكلام الحسن الذي جاء عن النصارى دون أن يرجع للتحقيق البحثي بالوقوف على متى جاء إسم المسيح في القرآن و ما سبق ذلك من كلام يؤكد على من هم أصحاب التأثير الحقيقي و الذين كان هم يميل لهم عقائديا أكثر بكثير و هم اليهود.
اقتباس:وتميز هذا العهد أيضا بالدعوة للزهد بالدنيا والزهد ليس من اخلاق البيئة العربية ولا هي دعوة يهودية ,بل هي دعوة مسيحية رهبانية,وأيضا تميزت هذه الفترة بالدعوة للتوبة ,
و أنت تعلم يا صديقي أن المسيحية بهذا الصورة لم تستقطب محمدا و لم تعجبه بل رأها نوع من أنواع الغلو، و أنا شخصيا أوافقه. فلو استطاب محمد المسيحية بصورتها الرهبانية فلما أقبل على الزواج و معروف ما بين الرهبان و بين الجنس و الزواج من بغضة نافرة؟
ما تقوله أعلاه، يا عزيزي، هو برهان في حد ذاته على أن المسيحية بصورتها التقوية النسكية لم تكن بيئة التدريب لإعداد محمد للنبوة كما زعم أبو موسى الحريري.
اقتباس:وصلاة محمد الأولى كانت مسيحية رهبانية, فما الهتاف الأول الذي سمعه محمد ؟:"يا أيها المزمل , قم الليل الا قليلا ...ورتل القرآن ترتيلا(مطلع سورة المزمل) ومن ثم يؤمر بالسورة الثالثة بقيام الليل للصلاة وترتيل القرآن, فليس قيام الليل للصلاة عادة عربية او يهودية
بل هي عادة عربية و يهودية يا عزيزي! أراد المسيحيون أن يحتكروا النسك دائما لهم فقالوا نحن أباء الرهبنة في العالم! إطلاق للكلام على عواهنه دون معنى! هذا هو الكبرياء و الكذب بعينه، اسمح لي. الحياة التبتلية كانت حاضرة في الجزيرة العربية بين الأحناف و هم ليسوا بشيعة نصرانية رغم ما فيهم من نسك و تبتل بل هم يميلون لليهودية أكثر و ليتك ترجع لبداية مقالي فيما كتبته عن "الأحناف" و كيف يتحنف الأعرابي. أما عن النسك و الرهبنة بين اليهود فقد سبقوا القديس أنطونيوس بقرون إن شئنا القول و إلا ما قولك في جماعة الأسينيين في قمران؟ هؤلاء كانوا يهودا يا عزيزي و انتهجوا النسك الرهباني و عاشوا في جماعة رهبانية تشبه نظام الرهبنة الباخومية عند الأقباط. يميل كثير من المؤرخين إلى إيجاد علاقة بين يوحنا المعمدان مثلا و جماعة الأسينيين في قمران لوجود الكثير من نقاط التقاطع في الممارسات و العقائد.
مع احترامي الشديد لك يا أخي العزيز ليتك تنظر و تقرأ خارج كتب الحداد. هؤلاء خدموا قضية توصيل البشارة للمسلمين و أنا شاكر جدا لهم على ذلك و لكن أيضا كتبوا بشكل مليء بالمغالطات التاريخية و التي لم تكن منصفة لدى الباحث في حق التاريخ و لوجه التاريخ. أستعمل كتب الحداد إذا أردت التبشير أما في طلب الحقيقة كباحث في شأن التاريخ فلا أراها مفيدة كثيرا أو منهجية بالمرة لأني مضطلع على مراجع ألماني و أبحاث أكثر اتساعا لا يهمها مجاملة جماعة معينة من المؤمنين الذين قد يثوروا أو تجرح مشاعرهم لدى ذكر أمر ما له صلة بالتاريخ.
تحياتي الحارة لك و أتركك لأقضي اليوم بين أحضان وريقات ميخائيل نعيمة و هو يكتب عن جبران.. ما أعظم ميخائيل نعيمة فعلا حيث أقرأ قصة حياتي فيه في بعض المناحي!