سلام أخي ابراهيم
اعتذر لاني جعلتك تكرر نفس السؤال اكثر من مرة , وكان بامكاني ان اوضح فكرتي أكثر فاعفيك من هذا التكرار, لا اعرف من اين وقعت على معلومة ان محمد لم يأت على ذكر المسيح الا في السنة العاشرة من بدء دعوته,فعندما حددت انا سنة الهجرة الى الحبشة , كنت اعني وما هو معروف ما حمله المسلمون الذي هاجروا معهم الى النجاشي المسيحي, واعني بذلك سورة مريم, كنت انتظر ان تلتقط معاني هذه الهجرة من دون ان ازيد عليها شرحا.
عزيزي ابراهيم ان الهجرة الى الحبشة هي الحدث الاول في تاريخ القرآن والاسلام, وهذا له مغزى عظيم ودلالة واضحة على اتجاه محمد الاول في مطلع دعوته.
اشتعل اول اضهاد للمسلمين , وتضايق القوم وضاقت بهم البلاد, فالى اين يلتجئون ؟ وعند من يحتمون؟ اليس واضحا ان محمد ما نصحهم بالهجرة الى الحبش المسيحية (والعمل ابلغ تفسير من القول) حتى يأمن على قومه عند الاقربين لدينه؟
وسورة مريم التي حملها المهاجرون في بدايات العهد المكي , حيث لم يتصدر القصص التوراتي السور المكية , بل ظاهرة كبرى ومميزة , ان تكون سورة مريم هي القصص القرآني الأول لاستعمالها اسم الجلالة الرحمان الشائع في اليمن والحبشة, وسورة مريم هي الفاتحة الى اعتماد اسلوب القصص في الدعوة, وفي سورة مريم اطراء للمسيح لم ينله رسول في القرآن.
اما عن يوم الدين صحيح ان يوم الدين هو تعبير يهودي و مسيحي واسلامي, ولكن ما كنت اريد ان اقصده هو ان اسلوب القرآن في الكلام عن يوم الدين هو اسلوب مسيحي.
ولتمييز مسيحية الدعوة القرآنية ليوم الدين عن يهوديتها نقول:صحيح ان الدعوة ليوم الدين هي ايضا دعوة يهودية , ولكنها تلمودية أكثر منها توراتية , وغزت التلمود بتأثير المسيحية , فالأنجيل يذكر ان طائفة الصدوقيين , الجالس على كرسي موسى , كانت تنكر البعث (متى 22: 23) وفي التلمود ليست محور الاصلاح الديني , ولا سبب وغاية الاصلاح الاخلاقي , كما كانت الحال عند الرهبان المسيحيين , وكما هو الواقع في القرآن , ومن الدلائل ان ملاك الموت في التلمود هو ابليس, بينماهو ملاك الله في النصوص المسيحية والاسلامية , والانجيل يحصر الحساب في يوم الدين في الحساب على المعاملة الانسانية والمحبة الاخوية (متى 25: 31-45).
في عهد الفترة بين المسيح ومحمد , نجد عند ائمة المسيحية نزعتين في وصف يوم الدين , نزعة المحبة والثقة البنوية بالله والمسيح الديان , ونزعة الخوف من يوم الله الرهيب يوم الحساب والغضب (رومة 2: 5) وسادت نزعة الخوف بين الرهبان الذين اشاعوها في اوساط الشعب وديار العرب , وهذه النزعة المرعبة هي التي تسود القرآن من "يوم يجعل الولدان شيبا " , " تذهل فيه كل مرضع عما أرضعت " .
فكما كان يفعل الدعاة المسيحيون , خصوصا الرهبان منهم , فعل النبي العربي في تأسيس الاصلاح الاجتماعي على اساس الأصلاح الديني بالدعوة ليوم الدين والانذار به حتى التهويل به في كل سانحة , وهذا الخوف من يوم الدين مع الدعوة الى الزهد كان على اساس الرهبانية الاولى.
ليس صحيحا يا اخي ابراهيم قولك ان محمد لو استطاب الدعوة الرهبانية ما كان اقبل على الزواج, ولكن الصحيح ان محمد الذي بقي بتولا ولو بشكل نسبي الى ما بعد وفاة خديجة,( لان زواج ابن ال25 عاما من ابنة اربعين عاما ليس بغرض الاستطابة الجنسية) ما غير من نمط حياته حتى استنفد الاغراض التي ابتغاها من وراء رهبانيته, وهي اغراض سياسية بامتياز.
اما عن رهبانية محمد فهي بسبب دعوته للزهد في بداية دعوته , وليست دعوة الزهد من اخلاق البيئة العربية , وليست يهودية , , فقد ورث اليهود عن التوراة ان خيرات الأرض دليل رضى الله وبركاته , وهذا هو اعتقاد زعماء مكةوالمدينة فأنتقدهم محمد:" فأما الانسان اذا ابتلاه ربه , فأكرمه ونعَمه فيقول:ربي أكرمني , واذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي اهانني"(الفجر15-16), هذا في مكة محمد متأثرا بالمسيحية نعيم الدنيا ليس كرامة ولا الفقر فيها اهانة, وفي المدينة بجوار اليهود سنسمع منه صوتا معاكسا :"اليوم أحلُ لكم الطيبات!....يا أيها الذين آمنوا لماذا تحرمون طيبات ما أحلَ لكم"(المائدة ) , لكن في مكة دعا الى الزهد , ودعوة الزهد عنده فيها صدى الانجيل:"تأكلون التراث أكلا لما , وتحبون المال حبا جما "(الفجر16) " بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير , وأبقى"(الأعلى) وفي الأنجيل :" اطلبوا اولا ملكوت الله وبره وهذا كله يزاد لكم"(متى 6 : 33) , "الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر "(تكاثر1-2) قال البيضاوي:"معناه الهاكم التكاثر عما هو أهم وهو السعي لأخرتكم" ثم " واعلموا انما اموالكم وأولادكم فتنة , وان الله عنده أجر عظيم (تغابن 15) وتأتي النصيحة ايضا لمحمد:" ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به ازواجا منهم -زهرة الحياة الدنيا - لنفتنهم فبه, ورزق ربك خير وأبقى...نحن نرزقك والعاقب للتقوى"(طه 131) هذه دعوة خالصة للزهد المسيحي الرهباني.
اقتباس:أراد المسيحيون أن يحتكروا النسك دائما لهم فقالوا نحن أباء الرهبنة في العالم! إطلاق للكلام على عواهنه دون معنى! هذا هو الكبرياء و الكذب بعينه، اسمح لي. الحياة التبتلية كانت حاضرة في الجزيرة العربية بين الأحناف و هم ليسوا بشيعة نصرانية رغم ما فيهم من نسك و تبتل بل هم يميلون لليهودية أكثر و ليتك ترجع لبداية مقالي فيما كتبته عن "الأحناف" و كيف يتحنف الأعرابي. أما عن النسك و الرهبنة بين اليهود فقد سبقوا القديس أنطونيوس بقرون إن شئنا القول و إلا ما قولك في جماعة الأسينيين في قمران؟ هؤلاء كانوا يهودا يا عزيزي و انتهجوا النسك الرهباني و عاشوا في جماعة رهبانية تشبه نظام الرهبنة الباخومية عند الأقباط. يميل كثير من المؤرخين إلى إيجاد علاقة بين يوحنا المعمدان مثلا و جماعة الأسينيين في قمران لوجود الكثير من نقاط التقاطع في الممارسات و العقائد
.
عزيزي ابراهيم التعسف في اطلاق الكلام أكثر ما يؤذي الحقيقة ,لم اعلق على كلامك عن الاحناف الوارد في مقالك لانه يحتوي مغالطة كبرى, الحنيفية هي طائفة نصرانية انبثقت من المسيحية الأولى , الكلام عن هذه الجماعة يحتاج الى دراسة او موضوع خاص و وكل ما سأقوله لك عنها هو ما قاله الأب الحداد عن اسم هذه الجماعة وهو ان اسم الحنفاء مصدره سرياني ويعني المهرطقين, وهو تسمية مسيحية الصقت بهم تعييرا لهم , ومع مرور الزمن أخذوها اسما لهم , هذه عادة تبعتها كثيرا من الجماعات , على سبيل المثال الدروز الصق فيهم هذا الاسم تعييرا لهم وهم اعتمدوه مع مرور الزمن.
اما عن الاسينيين صحيح انهم يهودا في الاصل لكنهم خارجين عنهم , وهناك استبعاد لان تكون عقيدة الحنفاء تحدرت من عقيدتهم , لسبب ان الحنفاء جمعوا مع ايمانهم بانبياء التوراة ايمانهم بيسوع المسيح ورسله.ويرجح ان تكون عقيدة الصابئة المندايئون في العراق متحدرة من جماعة قمران لانها الأقرب اليها .
اقتباس:مع احترامي الشديد لك يا أخي العزيز ليتك تنظر و تقرأ خارج كتب الحداد. هؤلاء خدموا قضية توصيل البشارة للمسلمين و أنا شاكر جدا لهم على ذلك و لكن أيضا كتبوا بشكل مليء بالمغالطات التاريخية و التي لم تكن منصفة لدى الباحث في حق التاريخ و لوجه التاريخ. أستعمل كتب الحداد إذا أردت التبشير أما في طلب الحقيقة كباحث في شأن التاريخ فلا أراها مفيدة كثيرا أو منهجية بالمرة لأني مضطلع على مراجع ألماني و أبحاث أكثر اتساعا لا يهمها مجاملة جماعة معينة من المؤمنين الذين قد يثوروا أو تجرح مشاعرهم لدى ذكر أمر ما له صلة بالتاريخ.
عذرا اخي ابراهيم هذا هو التعسف بعينه والخارج عن المنطق , عندما نتكلم عن مغالطات لا يجب ان نوردها بشكل ضبابي و بصيغة خطابية, أنصحك ان تقرأ للأب الحداد أكثر واعتقد انك لم تتعمق بكتبه, ولا يمكن ان نتكلم في هكذا موضوع بالعموميات فقط
أخيرا اتمنى ان تتقبل كلامي بكل رحابة صدر فبالنهاية ما يهم ان نصل سوية الى شاطئ الحقيقة.... وشكرا