من البديهي أن العمل المعارض لا يستطيع أن يعمل خارج إطار المتغيرات الإقليمية والدولية مهما كان قويا وناجحا ومثمرا ، فأي عمل معارض لا يراعي هذه المتغيرات سوف لن يخرج عن كونه " بطرا " سياسيا ودوران في حلقة مفرغة سوف لن يوصل إلى أي نتيجة ممكنة .
وكنت تساءلت قبلا كيف يمكن للمعارضة السورية – مثلا – أن تتهرب من إستحقاقات إقليمية ودولية إذا ما قيض لها النجاح كعملية السلام والجولان والخلاف الحدودي والمائي مع تركيا على أقل تقدير ؟! ، وهل تستطيع أن تتملص من الإتفاقيات الدولية التي تبرمها سوريا مع محيطها الدولي أو أن ترفض أن تسدد الديون السورية لبعض الدول على أنها تمت في عهد بائد ؟!
في الواقع فإن العمل المعارض هو إمتداد " بيروقراطي " وإداري لسياسة الدولة نفسها ، بل وسياسي أيضا ، وإن لم تتقبل المعارضة هذا الوضع أو تؤمن به ، فهي ليست أكثر من معارضة " موقف " وشعار لعمل سياسي إنفعالي وغير ناضج ، تماما كالشعارات القومية والتقدمية والإسلامية العاطفية التي ترفض التعايش مع الواقع ، إذ لا يمكن بحال أن ندفن زمنا ونستنبط زمنا آخر على مزاجنا في عصر القرية الواحدة ، فهذا الشكل من النشوء الكامل على أنقاض سقوط كامل إنتهى منذ عصر دول الطوائف حيث حدود العالم تنتهي عند حدود الدولة .
الآن سوريا بكامل إتجاهاتها السياسية والقومية أمام إمتحان صعب ، فالمحدلة الأمريكية المنطلقة بكامل حيويتها واندفاعها رابضة على الحد الشرقي الأقرب لسوريا إستعدادا لمواصلة طريقها في بناء الزمن الأمريكي الكامل والغير منقوص والذي لا تشوبه أي شائبة " عالمية " أو حضارية أو ثقافية من أي لون كان ، فبعد سقوط الخيار الأوروبي على العراق في حرب النفط الأولى والثانية ، وعلى يوغوسلافيا سابقا ، وبعد سقوط القطب السوفييتي الموازن للقطب الأمريكي ، لم يعد بمقدور الكيانات الصغيرة أن تبحث لها عن مهرب من معسكر إلى آخر ، ولم يعد بإمكانها الصمود أمام الليبرالية الأمريكية الإقتصادية التي تسعى منذ سقوط الإتحاد السوفييتي إلى تفتيت البعد القومي والأممي لحساب بعد " عالمي " تقوده أمريكا ، وهو ما تؤطر له وتشرع له منظومة إتفاقيات التجارة الحرة التي تسعى إلى تحطيم الحدود السياسية والقومية * لصالح " حكومة عالم " واحدة ، وهو ما يفسر قيام بعض المتظاهرين ضد الحرب حول العالم برفع شعارات تندد بهذه الإتفاقيات على اعتبار أن الحرب على العراق جزء من الحملة الليبرالية الأمريكية ، ورأينا كيف قام المتظاهرون الأمريكان قبل أيام بالتظاهر أمام مكاتب الشركات الأمريكية المستفيدة من هذه الحرب .
الديموقراطية الإقتصادية
من الحماقة الشديدة التعامل مع الحملة الأمريكية الجديدة على أنها حملة " ديموقراطية " تهدف إلى إسقاط أنظمة ديكتاتورية وإنشاء حكومات ديموقراطية شعبية ، الأمر الذي يعني تهديدا مباشرا وخطيرا للمصالح الأمريكية ونقل المواجهة من المواجهة مع حكومات كرتونية تعتاش على المساعدات الأمريكية الإقتصادية والسياسية إلى المواجهة مع الشارع نفسه ، ورأينا كيف تعاملت أمريكا مع خيار الشارع الفنزويلي الذي أتى برئيس يساري غير مرضٍ عنه أمريكيا ، ورأينا أيضا كيف تعاملت مع البرلمان التركي الممثل الشرعي للديموقراطية الشعبية ، لا بل حتى مع الموقف الأوروبي المعارض للحرب ، وحتى المؤيد لها والذي تجاوز حتى القرار الشعبي نفسه .
هذا الأمر لا يجوز التعامل معه على أنه " إستنتاج " من موقع رفض للهيمنة الأمريكية ، بل هو نتيجة توصل إليها تقرير وصف بأنها " سري " رفعته وزارة الخارجية الأمريكية إلى الإدارة قبيل الحرب معتبرا أن إنشاء ديموقراطية حقيقية في الشرق الأوسط يمكن أن يهدد المصالح الأمريكية من خلال إيصال الشارع الذي يكره أمريكا وإسرائيل لحكومات تمثل هذا الصوت ، معتبرا أن الناحية الإيجابية الوحيدة لهذا التغيير تكمن في الناحية الإقتصادية من خلال تحرير السوق .
بالتالي ، فإن أي تنازلات " ديموقراطية " يمكن أن يقدمها النظام السوري لهذه الحملة سوف لن تكون كافية لإيقافها ، حتى ولو تجرد من كامل ثوابته الوطنية والقومية والحزبية الواهية أساسا .
لنكن منطقيين ، فالنظام السوري لا يشكل أي تهديد عسكري أو أمني لإسرائيل ولا للسلام العالمي الذي ترفع أمريكا شعاره ، أيضا هو ليس عدوا مباشرا أو غير مباشر للإدارة الأمريكية التي لم تخجل ولم تتردد في أن تكون أول داعم له وأول مبارك للانتقال الغير شرعي للسلطة حتى قبل مسرحية البرلمان السوري التي ضربت بأبسط قواعد العمل السياسي حتى " الشمولي " منه عرض الحائط .
وبالتالي فإن القول أن الحرب على " النظام السوري " تدخل في إطار نزع فتيل أي خطر يتهدد إسرائيل إنما هو قول " شاعري " لا تؤيده خارطة الصراع السوري الإسرائيلي منذ سقوط الجولان حتى الآن ، مرورا بدعم سوريا لحزب الله لأهداف لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية لا من بعيد ولا من قريب ، لا بل هي أضرت بالكفاح الفلسطيني المسلح من خلال تعيين حزب الله حارسا أمينا على الحدود الرخوة لجنوب لبنان التي كانت مسرحا خصبا لعمليات فلسطينية كانت تشكل تهديدا فعليا ليس لأمن شمال فلسطين ، بل حتى للعمق الإسرائيلي نفسه .
إذن فالمطلوب ليس رأس النظام السوري ، بل رأس " سوريا " نفسه ببعديها القومي والشعبي ، تماما كما حصل للعراق البعيدة أساسا عن الحدود الإسرائيلية و التي كان نظامها مواليا لأمريكا ، والأمر نفسه سينطبق على أي دولة عربية ستكون التالية على لائحة المحدلة الأمريكية .
المعارضة " السورية "
المعارضة السورية ليست بعيدة عن هذه التوازنات والمعطيات ولا يمكن أن تكون بعيدة ، أيضا لا يمكن لها أن تبني سياساتها المستقبلية على أهداف معاكسة وإلا فإنها تحلم وستجد نفسها خارج منظومة التغيير المرتقب ، وسيقتصر دورها السياسي على العمل المعارض للنظام السياسي المرتقب ، تماما كحال المعارضة العراقية الوطنية التي وجدت نفسها خارج كل الأزمنة و معارضةً لكل الأزمنة .
الخيارات المتاحة أمام المعارضة الآن أصبحت ضيقة للغاية ، فهي لم تعد تتعامل مع نظام تعمل على إسقاطه ، بل مع " حملة " تعمل على إسقاطها وإسقاط النظام والوطن معا ، فإما أن تقبل بالتعامل مع أصول اللعبة على عجرها وبجرها ، أو أن لا تتورع أبدا عن حمل السلاح والنضال ضد الحملة الأمريكية حتى ولو كان تحت لواء النظام السوري نفسه .
المعارضة السورية الآن مطالبة بجدية بأن تعي ظروف المرحلة وأن تتعامل معها بالنضج والوعي الكافيين لقطع الطريق على أي " أحمد جلبي " سوري يمكن لأمريكا أن توجده بمنتهى السهولة ، فلص البنوك السابق والمطلوب بقضايا مالية ليس صناعة عراقية متفردة بل هو موجود في كل مجتمع ، وحياة الفساد الطويلة التي عاشها الشارع السياسي السوري قادرة على أن تنجب العشرات منه ويصبح علينا أن نتقبل واقعا لا يقل مرارة عن الوضع العراقي من حيث الإحتلال واستمرار مسلسل اللصوصية التي ستنتقل من طورها الوطني إلى الطور العالمي الأوسع والأشمل .
على المعارضة السورية أن تعمل منذ اللحظة على تلافي السقوط المريع لبغداد وما صاحبه من فراغ سياسي وإداري وأمني وأن تعمل منذ الآن على إنشاء حكومة وحدة وطنية تقفز فوق التمثيل الحزبي والطائفي ، حكومة " تكنوقراط " وطنية تضم في نسيجها شخصيات من داخل وخارج المعارضة قادرة على قيادة المرحلة المقبلة بأجندة وطنية " بيروقراطية " براجماتية حتى ولو تلاقت مرحليا مع متطلبات الحملة الأمريكية وأجندتها ، وبذلك قد تستطيع الإلتفاف على خيار أمريكي خالص يتمثل بأحمد جلبي جديد ، وأمريكا قادرة على إيجاده حتى ولو كان نشال في حافلات دمشق ، بل قد تستطيع إحراج الموقف الأمريكي نفسه ووضع مصداقية الحملة على المحك الحقيقي .
آخر الملكات ماتت ولم تستطع الصمود لاعتبارات كثيرة ليس مجالها ، فهل ستستطيع آخر الوصيفات أن تصمد ؟!
وإن كانت بغداد بإرثها وتاريخها وقوتها سلمها الغرب بأنفسهم للعشيق الأمريكي ، فكيف سيتعاملون مع دمشق ؟!
تحياتي
* طرح قديم :
http://forum.shrc.org/arabic/bb/Forum4/HTM...TML/005407.html
(f)
// وبذلك قد تستطيع الإلتفاف على خيار أمريكي خالص يتمثل بأحمد جلبي جديد ، وأمريكا قادرة على إيجاده حتى ولو كان نشال في حافلات دمشق //
الغريب أن أمريكا أوجدته فعلا ..
صحيح لم يكن نشال في حافلات دمشق كما توقعت .. طلع نشال في مقاهي نيويورك :lol: